رغم ما يعيشه العالم من أزمات ومشاكل على أثر الحروب والفقر ونهب الثروات من قبل الحكومات الظالمة إلا إن وقع أثر ذلك كان ليس عاما، كما يعيشه العالم اليوم، فهذه الأزمة الوبائية كانت مصدر تهديد للعالم بشكل كامل؛ أدى إلى توقف عجلة الحياة العملية والعلمية بشكل شبه كامل، وصَحِب معه مزيد من الهلع والقلق والخوف من المصير المجهول الذي يعيشه كثير من البشر.
والسؤال هنا: إلى أي مدى يمكننا الإستفادة من الأزمة الراهنة؟ وكيف يمكن أن نستخرج المكنونات الإيجابية من هذه الجائحة؟ وللإجابة سنورد ثلاث جوانب نبين من خلالها ما يمكن أن يستلهم من التأثير الإيجابي لهذه الأزمة على الإنسان:
الجانب الفكري:
كون هذه الأزمة فيها تذكرة لتحرير الأرواح المقيدة بحدود هذا العالم.
إن من السنن الإلهية في رحلة الحياة هي الابتلاء والغربلة ثم التصفية والتنقية ثم بلوغ التكامل الإنساني، ليصل لآدميته.
وإن من إيجابيات هذا البلاء هي إنها [تذكرة] لمن غفل عن حقيقته المتصلة بالسماء وغاية وجوده، لذا قد يكون ظاهر هذه الأزمة هو تقيد لحركة الإنسان الميدانية، إلا إن في باطنها غاية مهمة وهي تحريره روحيا من عالم قد طغت عليه المادية، والذوبان في حدود القوة العقلية البشرية، تلك القوى التي تُدير وتَحكم هذا الكون، فهي ليست أعظم من العقل فقط، بل الصانعة للعقل البشري.
فعندما يطغو العقل البشري ويرى إن قدراته لا حد لها، ولا منافس لها، تأتي آيات الله تعالى لتذكره، لتسمعه صوة فطرته المجبولة على الفقر والحاجة لتلك القوة المطلقة.
الجانب النفسي:
تبصرة لكل إنسان لمراجعة أولوياته في هذه الحياة.
إن طبيعة الحياة التي نعيشها تتسم بالسرعة والمادية بشكل كبير، مما جعلت الإنسان مُسَير أكثر مما هو يعيش كما خلقه تعالى مكرم ومخير، يُساير ما يفرض عليه، ولا يجد وقتا لتقويم مسيره.
فالكثير من الناس يعيشون معظم أوقاتهم وهم منغمسين بالحياة العملية المادية، والبحث عن الثروة والشهرة وما إلى ذلك.. هاملين جوانب حياتهم الأخرى كممارسة العبادات التي تغذي الجانب المعنوي فيهم، استشعار النعم التي لديهم، التواصل الطيب مع الآخرين، الالتفات لأسرهم، وتوثيق العلاقات المبنية على القرب والمودة.
مجيء هذا الوباء أجبر الناس على التوقف عن ممارسة ما اعتادوا عليه، وبعد أن صدموا بواقع فارغ أحاطوا أنفسهم فيه، إذ لم يجدوا بدائل أمامهم لتعويض فَقد هذا الجانب في حياتهم، ظهرت علائم عدم التوازن النفسي فيهم، وانكشف الخلل الموجود في سلم أولوياتهم الحياتية، الذي وضعهم أمام خيار مراجعة الأولويات وترتيبها، وليسدوا هذا الفراغ بشكل سليم.
الجانب الإنساني:
الوسطية في التعامل مع الأزمات والتحرر من الإفراط والتفريط.
لا يوجد فرد حياته خالية من الصعوبات والخطر والمشكلات، ولكن يبقى هناك تفاوت في تعامل الناس معها وفق درجة وعيه ومسؤوليته، فهناك من يعيش حالة التفريط، فيعيش لذاته، وهذا النوع لا يُنتظر منه أن يُفكر بالآخرين، ولا يتوقع منه أن يسعى لتقديم العون لهم.
وهناك من يعيش حالة الافراط، فيرى الجانب المظلم في الحياة، يحصر نفسه في سجن يرى فيه كل أوجاع الشعوب المضطهدة، فيشعر بالعجز واليأس في قرارة نفسه، وهناك من يعيش الوسطية حيث يعيش همومه وهموم غيره، فكما يرى نافذة الظلمة يرى النور، لم ينعزل لسوء زمانه، ولم يندمج لحد نسيان وجوده.
وهذا الفيروس كشف عن جوهر مهم في بناء العلاقات الإنسانية، ودور الفرد الإيجابي والسلبي في حياة الأخرين، لذا فهذه فرصة لِيُقَوم أهل الإفراط والتفريط سلوكهم في التعامل مع الأزمات، فيعيشون حالة التقبل لهذه الوباء بالأخذ بالأسباب، والتوكل على مسبب الأسباب، وعدم التهاون بمسؤوليتهم تجاه غيرهم فلا يهملوا أنفسهم ولا يتسببوا بإهلاك غيرهم، وهذه الروحية إذا نمت لابد أن لا تُفقد.
وختاما: إن هذه الأزمة هي أتت بقدر ما هي مقيدة هي محررة لنا من سلوكيات خاطئة كنا نتعايش وفقها.. لنكون أصحاب معرفة بالسنن الالهية، فلا نجزع إذا ما حاصرتنا النوائب، ولا نغتر بتوالي النعم.. نكون ذوي بصيرة فنرى ما وراء كل بلاء، فننفذ منه إلى ما فيه تقويم وجودنا، وتنقية نفوسنا، وتصحيح مساراتنا.
إذ كلما كانت حركة الإنسان أكبر وبصيرته أنفذ تجاه ما هو واقع فيه من إبتلاءات، كانت موجبات الرفع عنه أسرع، وفرصة إغتنامها أعظم، فلكل فرد منا دور وعليه تقع مسؤولية، وهو مؤثر على مسار حياة كل ما حوله.
اضافةتعليق
التعليقات