لقد دأب الشيعة على اطلاق صفة الغريب على بعض الأئمة المعصومين فيصفون الإمام الحسين (عليه السلام) بأنه غريب كربلاء، والإمام الرضا (عليه السلام) بأنه غريب طوس، ولكن الحقيقة إن الأئمة جميعهم عانوا نوعاً من الغربة كُلًا حسب الظرف الذي عاشه، وجميعها تندرج تحت عنوان غربة الحق في عصر يعجّ بالباطل والظلم !!
ربما لم نسمع أحدا وصف الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بأنه غريب سامراء، مع أنه قاسى أمرّ أنواع الغربة، وأكثرها شدة وإيلاما مع أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) منذ أن حملهما المتوكل العباسي قسرا إلى سامراء، وفرض عليهما الإقامة الجبرية وكان الإمام الحسن العسكري حينئذ في الثانية من عمره الشريف !
عاش الإمام الحسن العسكري تحت ظل إمامة أبيه الهادي اثنان وعشرين عاما، قاسا معا أعتى أنواع الظلم والتعسّف من الخلفاء العباسيين الظلمة ابتداء بالمتوكل وانتهاء بالمعتمد الذي اغتال الإمام العسكري بالسمّ وهو في ريعان شبابه حيث لم يتجاوز الثامنة والعشرين من العمر .
وكانت سنوات إمامته السّت أعواما عصيبة عاصر خلالها حكم المعتز والمهتدي والمعتمد، قضاها مابين سجن وترحيل وإقامة جبرية تحت أشد درجات المراقبة والتجسس، وكان الحرّاس لا يفارقون باب داره ليلا ونهارا، وبين فترة وآخرى كان يتم تغيير الحرس مع تأكيد الأوامر بتشديد الحراسة عليه وعلى كل من يتّصل به.
ومن الروايات التي تعكس الوضع العصيب الذي عاشه الإمام العسكري (عليه السلام) أنه كان يمنع شيعته من السلام عليه أو الإشارة إليه عندما يمرّ أمامهم لأن هذا سيعرّضهم للأذى بسجن أو عقوبة حيث ورد عنه في رسالة لشيعته: "ألا لا يسلّمنّ عليّ أحد، ولا يُشرْ إليّ بيده، ولا يومئُ، فإنّكم لا تؤمَنون على أنفسكم".
ولم يكتفي الحكام الظلمة بهذا بل حاولوا اغتياله عدة مرات؛ فهم يدركون جيدا إن الإمام العسكري هو الخليفة الحادي عشر من خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإن النور الثاني عشر كامنٌ في صلبه قطعا؛ ذاك الذي سيدكّ عروشهم، ويهدم دولتهم القائمة على الجور والاستبداد؛ لذا استمرت المحاولات الأثيمة لإطفاء نور الله، وقطع سلسلة المعصومين ولكن محاولاتهم كلها باءت بالفشل .
وهذا ما يوضحه نص السّيّد ابن طاووس: "إعلم أنّ مولانا الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام، كان قد أراد قتله الثّلاثة ملوك، الّذين كانوا في زمانه، حيث بلغهم أنّ مولانا المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يكون من ظهره (صلوات الله عليه)، وحبسوه عدّة دفعات، فدعا على من دعا عليه منهم، فهلك في سريع من الأوقات".
وهذا ما صرّح به الإمام العسكري نفسه حيث قال عندما أهلك الله المعتز الذي حاول اغتياله: "هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه. زعم أنّه يقتلني وليس لي ولد، فكيف رأى قدرة الله فيه؟"
أما المهتدي العباسي فقد كان يهدد الإمام عليه السلام والعلويين باجتثاثهم عن وجه الأرض فكان يقول متوعدا:
"والله لأجلينّهم عن جديد الأرض"
فجاء جواب الإمام عليه السلام في رسالة لأحد شيعته: "ذلك أقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة أيام ويُقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمرّ به" فكان كما قال عليه السلام .
ومع هذا الوضع العسير، والمعاناة الشديدة، والتهديد المستمر بالقتل فقد كان الإمام عليه السلام يواجه تحديات كبيرة، وتقع على كاهله مسؤوليات خاصة وفي غاية الأهمية والخطورة؛ وأول تلك المسؤوليات التمهيد لغيبة الإمام من بعده، وتعويد القاعدة الشيعية على عدم الاتصال المباشر مع الإمام، وقد اتخذ عليه السلام اسلوب المراسلات كحلٍّ لهذا الوضع الجديد الذي قد يصدم الشيعة لعدم تعودهم عليه، إضافة إلى اتخاذ الوكلاء ليكونوا الواسطة بينه وبين شيعته؛ فكان لديه شبكة كبيرة من الوكلاء منتشرة في جميع الأقطار، والذي ساعد في نجاح هذا الاسلوب كثرة غياب الإمام بالسجن أو بالإقامة الجبرية تحت الحراسة المشددة .
أما التحدّي الأكبر الذي واجه الإمام عليه السلام فهو الحفاظ على ولده المهدي من بطش العباسيين الذين حاولوا القضاء عليه بكل الصور، بمنع ولادته أولا عندما حاولوا اغتيال والده كما ذكرنا، أو بقتله بعد ولادته؛ مما يحتّم على الإمام العسكري عليه السلام التكتيم التام على خبر الولادة، ولكنه في الوقت نفسه عليه أن يظهر أمره حتى لا ينكر الشيعة وجوده تماما؛ وبهذا يتعرّض الكيان الشيعي برمّته إلى خطر عظيم إذا اعتقد الشيعة بعدم وجود حجة لله في الأرض .
فكانت مسؤولية ذات جانبين متضادّين وهنا تكمن صعوبة الأمر وخطورته؛ لذا تعامل الإمام مع ذلك الموضوع الحساس بمنتهى الحنكة والحكمة، وبخطة محكمة حيث استطاع أن يحيط خبر ولادة الإمام المهدي بمنتهى السرّية؛ فلم يحضر ولادته إلا عمته السيدة حكيمة عليها السلام، وحتى الخدم في البيت لم يشعروا بحدوث ولادة في تلك الليلة، وكان للطف الله وإعجازه دور كبير حيث لم يظهر حمل السيدة نرجس عليها السلام إلا ساعة المخاض!.
وفي الوقت نفسه أظهر الإمام العسكري عليه السلام خبر الولادة للخلّص من أصحابه وبمقدارٍ كافٍ ليتأكد لدى الشيعة ولادة إمامهم الثاني عشر، وإن الإمام الحسن العسكري لم يرحل من هذه الحياة إلا بعد أن خلّف الحجة من بعده كما ينص على ذلك المُعتَقد الشيعي !.
فقد كتب الإمام العسكري عليه السلام رسالة إلى أحمد بن إسحاق جاء فيها: " وُلِد لنا مولود فليكن عندك مستورا، وعن جميع الناس مكتوما، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته، والولي لولايته أحببنا إعلامك ليسرّك الله به، مثل ما سرنا به والسلام".
وكذلك قام الإمام العسكري عليه السلام بعرض ولده المهدي على جماعة من أصحابه المخلصين بلغ عددهم أربعون رجلا وقال لهم:
"هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا، قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلا أيام قلائل حتى مضي أبو محمد عليه السلام" .
نعم مضى إمامنا أبو محمد الحسن العسكري بعد أن عاش غربة لا يطيقها ألا أولياء الله المخلَصين، أدّى خلالها مهام إمامته كاملة، وخلّف وصيّه الإمام المهدي عليه السلام لغربة شرسة ممتدة مادامت دولة الظالمين قائمة حتى يأذن الله بشروق شمس ظهوره كما أنار الكون بنور وجوده المبارك .
اضافةتعليق
التعليقات