حين مرت آلاف الوجوه بجانبها ماكانت تبصر سوى حزنها العميق متلبسة دور الضحية في قصتها التي تكررت مئات المرات أمام عينها ولكنها أصرت أن تجرب، حتى تسارعت قدماها إلى الدار لتدفن وجهها في الفراش وقد تصاعد نحيبها المكتوم نشيجا يقطع قلوب سامعيه قبل أن يتحول إلى نوع من الهذيان ثم سألت نفسها ما الذي تصنعه أتراها تحتج على القدر، ذلك الجزار الذي مالبث مخطئا إلا ورمى عليه خطأه وكأن الانسان لم يكن له قدمان فيسير عليهما أو يدان فيلتمس جحيمه ولا فم قد قال فيه مايشاء ثم عند السقوط أجزم أنه القدر، متناسيا أنما الله ليس بظلام للعبيد وإنما كانوا أنفسهم يظلمون.
ولكنها عادة بشرية تسير عبر الأصلاب شاهرة سيف بظنها أنه الحق وكل ماهو جيد قد أحرزته بنفسها وماهو سيء قد ساقه القدر لها، فتنهار باحثة عن حلول تنتهي بها إلى توازن نفسي يتيح لها أن تكون في حالة سكون تامة، بينما الحقيقة مختلفة تماما فالتوازن هو من يهدي إلى طريق الرشد فيجعل العقل على أهبة الاستعداد لإصدار إشاراته بروية دون التعرض للضغط والتوتر فيكون عندها التوازن وسيلة لحل مصاعب الروح وليس هدفا للنفس حين تشعر أن ما من سبيل أمامها فتأوي إليه هروبا.
إن التوازن النفسي هو المستوى الثالث في الصحة النفسية (بعد السعادة، والرضى النفسي)، وهو حالة ديناميكية تكاد تتساوى فيه كفتان تحمل كل منهما شيئا يناقض الآخر بحيث يسمح هذا التوازن بحالة من الاستقرار النفسي، وبالتالي تكون ثمة احتمالات لتغيرات واضطرابات مؤقتة ولكنها سرعان ما تختفي.
وبما إن النفس الإنسانية دقيقة جداً وسريعة التأثر إلى درجة كبيرة، كلمة تنقل الشخص من حالة حزن عميق إلى توهج يستمر لوقت طويل، وجاثوم من الحروف قد يؤدي إلى تحويل انسان كامل إلى جثمان بارد لاحركة فيه سوى سيل مياه يخرج من مقلتاه، مما يجعله يحاول جاهدا البحث في مشكلاته عن توازن يؤدي به إلى راحة تامة لن يطولها لأنه غير مستعد لفهم أساس هذه المشكلة.
فالإنسان بحكم تكوينه يسعى للوصول لحالة التوازن، فكما أن الجسم به آليات مختلفة تجعله في حالة توازن حيوي أغلب الوقت على الرغم من التغيرات الداخلية في الجسم والخارجية في البيئة، كذلك هي النفس تحتاج لتوازن بل هي أهم لأن فقدان التوازن في الماديات قد يؤدي إلى تلف الأبدان، أما في المعنويات فيؤدي إلى تلف النفوس، وسيكون الأمر أخطر، لأنه بالنفوس تحيا الأبدان وليس العكس.
ولذلك يطلب الإمام زين العابدين (عليه السلام) من الله تعالى في دعاء مكارم الأخلاق أن يمنحه هذا التوازن فيقول: (ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزا ظاهراً إِلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها)، فإن هذا التعادل والتوازن الموجود في العبارات يشير إلى الدقة المقصودة إلى أن أدنى اختلال في توازن النفس قد يؤدي بها إلى التهلكة.
أهمية السعي والدعاء للوصول لحالة التوازن
مؤكد أن الأسباب كلها بيد الله تعالى، ولذلك يلفت الامام نظرنا إلى الداء الذي قد تصاب به النفس وسبل علاجها، ففي حديثه يخبرنا أن الرفعة التي تحصل للإنسان بين الناس قد تصيبه بالغرور ولابد له من أن يوازنها بأن لا يستعظم نفسه بل يستصغرها ويطلب من الله أن يعينه على ذلك، صحيح أن الأسباب كلها بيد الله ولكنه تعالى لا يسهلها لمن لا يطلبها بسعيه، ولذلك اقتضى الأمر بالإجابة من خلال السعي والدعاء معاً، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَأن لَيسَ لِلإِنسَانِ إلاّ مَا سَعَى﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿قُل مَا يَعبَأ بِكُم رَبي لَوْلا دُعاؤكُم)، وفي الدعاء أيضاً: «ولا ينجي منك إلا التضرع إليك».
ومن هنا يتضح أن الدعاء فيه إلفاتاً إلى أن كل الأمور هي بيد الله تعالى ويجب الاستعانة به والتضرع إليه.
ثم عليك أن تعلم لكل شيء نهاية فالأحزان لن تستمر ومن عظمة الخالق أنه جعلنا بمرور الوقت ننسى همومنا وينزل الصبر والسكينة في قلوبنا، لو نتذكر كم تعرضنا من قبل لمواقف مؤلمة ولكنها انتهت بسلام، فالاسراف في مشاعر الحزن والقلق لن يحل المشاكل بل يستهلك طاقتك الداخلية بينما العلاج يكون بالتعامل مع أي ضغوط بإعتبارها مشكلة تحتاج للحل ولن يحدث ذلك سوى بإستخدام العقل والتفكير في خطوات الحل وليس الإنفعال والتأثر والقلق فلا تستسلم إذا تعرضت لضغوط متعددة وشعرت أن الأمور خرجت عن السيطرة ولكن أعد تقييم أولوياتك الأهم فالمهم وسجلها ثم تعامل معها بالترتيب ولا تلعب أبدا دور الضحية أو المجامل الدائم على حساب نفسك حتى لا تحمل نفسك فوق طاقتها.
وفي النهاية نحن لا نستطيع أن نمنع ضغوط الحياة لأنها وليدة البيئة المحيطة بنا ولكن من الممكن أن نغير أسلوبنا في التعامل معها للتغلب عليهاأي نكون في حالة توازن نفسي لنتعامل مع شتى الأمور بعقلانية أكبر.
اضافةتعليق
التعليقات