عندما نستمع مصطلح العقم نعتقد بأنه يطلق على الأشخاص غير القادرين على الانجاب فقط لكنة بالحقيقة له أنواع ومن أهمها عقم التفكير الذي هو أشد أنواع العقم فتكا بالأفراد والمجتمعات، والذي لا يقتصر على عدم القدرة على ولادة الأفكار بل يتجاوز ذلك؛ لكون العقم المقصود هنا مقترن بنوعية الأفكار المطروحة أي بمدى فاعليتها وتأثيرها الإيجابي؛ بمعنى أن الأفكار السلبية والمنحرفة بهذا المنطق هي أفكار عقيمة، مما يعني أن العقول العقيمة لا تعطي أية مساحة للتنمية المستدامة والتطور السريع، أي أنها تقلل من وتيرة حدوث النهضة، بل وقد توقفها وتجعل إمكانية حصولها من المستحيلات.
حيث نحن نعلم أن الله انعم على الانسان بنعمة العقل التي تميزه عن باقي المخلوقات، وهو الوسيلة الجوهرية والأساسية التي يصل من خلالها الإنسان إلى المجهول من المعارف، وذلك عبر سلسلة من النشاطات الذهنية التي يقوم بها الدماغ، وأهمها التفكر والتفكير الذي هو عملية عقلية حسية غير ملموسة، فنحن لا نرى التفكير بقدر ما نرى نتائج تفاعله وديناميكيته وتحركه في تجويف صلدي لا يتغذى سوى على التخيل، وإثارة الخيال هي أساس التطور وأساس الابتكار، والإنسانية هي الحامي الأول للابتكار والخيال والإبداع.. التفكر الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الأذكار والرواية، العقل الذي يضع التفكير في أعلى سلم أولوياته.
هذه الأهمية الكبيرة لمفهوم التفكير في حياتنا جعلتني أتوقف طويلاً وأنا أبحث في مجموعة من الدراسات العلمية والفكرية، عند دراسة مهمة تشير إلى مستوى حالة إجادة مهارات التفكير عند خريجي التعليم العام في الوطن العربي، حيث تؤكد نتيجة هذه الدراسة أن "مهارات التفكير عند الطالب العربي في التعليم العام متدنية"، وأن كثيراً من الطلاب يعجزون عن تقديم أدلة وشواهد تتعدى المفهوم السطحي للمفاهيم والعلاقات، كما لا يستطيع كثير منهم تطبيق معارفه على مشكلات العالم الواقعي.
أما التفكير الإبداعي أو التحليلي أو النقدي فهو أشبه بالحلم. وترجع الدراسة السبب في ذلك إلى عوامل عديدة أهمها المناهج، والكتاب المدرسي، وإعداد المعلمين، وبيئة المدرسة، والقصور في طرائق التعليم وفي تعلم مهارات التفكير. إن تدني مهارة التفكير عند الطالب العربي يعني غياب شريحة فكرية مهمة عن ساحة التحليل والنقد والتفكير الإبداعي، وطريقة التشخيص والاكتشاف والاختراع التي تعتمد عليها "آلية" التطور في أي مجتمع يريد التقدم والتميز والمنافسة.
وهذه النتيجة أيضاً تكشف لنا مدى عقم الحالة التي يمر بها العقل العربي، وبخاصة حالة افتقاره إلى الفضول العلمي والمعرفي التي تؤثر في عدم قدرتنا على تطوير ذاتنا، وبخاصة في مجال العلوم وتحقيق أعلى مستوى من الإنجاز الفكري المتقدم الذي تميزت به الدول المتقدمة منذ دخولها طور النهضة وحتى الآن؛ لأن حرية الرأي، وحرية التفكير والنقد والبحث العلمي، والإصرار على التميز، وعوامل أخرى عديدة أهمها الشفافية والمكاشفة والمساءلة... خلقت عندهم ذهنية جديدة ونوعاً من العقول البشرية الخلاقة التي كان لها دور حاسم في تطور الوعي والعلم والفكر في الغرب.
ولا أخالني مخطئا إن قلت أن عقلية الإنسان في العالم العربي ضيقة جدا؛ وهذا ليس نتاج ذاتي بقدر ما هو تراكم مكتسب بفعل إخضاع الشعوب العربية إلى التسلط بمختلف أشكاله، وإجهاض وعيها بغرض خلق مجتمع يسهل العبث به والتحكم فيه، بينما نرى في مقابل ذلك أن العقلية التي يمتلكها من ينتمي إلى العالم المتقدم غير مقيدة ولها مجال واسع جدا من الحرية، لأنها تجد نفسها في وسط واعي مشجع للتغيير الإيجابي والابتكار، هذا هو الفارق بين بيئة حاضنة للنهوض والازدهار المطرد وبين بيئة يسودها العقم الفكري والجمود الإبداعي.
وفي ظل العتمة الفكرية التي تجتاح العالم العربي، ترتفع نسبة مصادفة أصحاب العقول العقيمة في الحياة اليومية، وبالخصوص العقول التي تم إدخالها ضمن قوالب فكرية معدة مسبقا، وهذا مما يبين أن عقم العقول ليس موروثا بل هو حاصل بفعل اضطراب في التفكير نتج عنه خلل في إنتاج الأفكار، وتتفاوت درجة هذا العقم تبعا لحدته وقوته .
ومن مظاهر العقم الفكري في أوساط الشعوب العربية التي تكثر فيها العقليات التي تجيد الجدل الفكري الفارغ؛ بالدخول في سجالات لا قيمة لها، والتي تأخذ في غالبيتها طابعا شخصيا، كما نجد أن الرأي العام في هذه المجتمعات ينشغل بسفاسف الأمور عن النقاشات الحقيقة الكبرى، وفي الغالب الأمر يتم ربط معظم الوقائع الحاصلة في هذه المجتمعات بالمؤامرة الخارجية، بالإضافة إلى أن التدافع الفكري فيها يكون سطحيا لا أثر لنتائجه سوى إنتاج مزيد من الحقد والفرقة. ولا بد من الإشارة إلى أن العقول العقيمة ترتوي من فكر سقيم، وهذا ما يجعلها تنزوي نحو فسطاط الباطل، وبهذا تصير رافضة لسماع صرير الحق، أي أن هذا النوع من العقول ينعدم في أصحابها الصدق والمصداقية، لأنها عقول رضعت الكذب والتدليس وتربت بين أحضانهما، وذلك ما جعلها تفرز أفكارا عقيمة، فالمفاهيم والتصورات في هذه العقول مغلوطة ومقلوبة، بسبب الاختلاط الحاصل فيها على مستوى المعايير المتبعة في الحكم على الأشياء، مما أفقد تلك العقول القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وبين الحقيقة والزيف.
ويحمل أصحاب الفكر العقيم الاعتقاد بصحة كل ما في عقولهم، وأن كل من يخالفهم ليس على صواب ولا يمتلك الحقيقة البتة، مما يعني أن لهم رؤية أحادية للأمور بحصرها في زاوية واحدة ومنظور واحد، فتجدهم يتشبثون برأيهم ولا يغيرونه مهما حدث أي أن هناك غياب لإمكانية الاقتناع عندهم، لكن في مقابل ذلك هناك محاولة دائمة لإقناع الآخرين بأفكارهم التي يضفون عليها طابع القداسة، وإن تجلت حقيقة أفكارهم، لا يتسارعون إلى الاعتراف بعدم مجانبتهم للصواب فيها، بل يلجأون إلى تبرير ذلك بأشياء واهية. ورغم أن لكل عقل قدراته التي تختلف من شخص لآخر إلا أن العقول العقيمة بصفة خاصة تفتقد القدرة على إنتاج الأفكار الإبداعية، وتوليد الأفكار الجديدة، نظرا لكون اهتماماتها محدودة جدا، ولأن انشغالاتها لا ترقى لمستوى الأخذ بالجدية والحرص على تقديم الفائدة والنفع.
ومما يدعوا للغرابة هو وجود مجموعة ممن يصنفون ضمن المثقفين أو النخبة ومع ذلك ينساقون وراء دوامة من الأفكار الفارغة، وما يزيد من هذه الغرابة هو تفاخرهم وتباهيهم بهذه الأفكار، ولكن الأشد غرابة من كل ذلك هو توفر بعض ممن يمتلكون هذه العقول على خصوبة فكرية عالية من دون فائدة؛ ولعل أفضل تشبيه لذلك هو اعتبار أصحاب تلك العقول كأنهم يتعاطون حبوب منع الحمل الفكري؛ لا لشيء إلا طلبا لرضى من بيدهم مصالحهم الشخصية وخوفا من أن ينالوا سخطـهم فينبذوا ويعزلوا، على الرغم من إدراكهم للأعراض الجانبية لتلك الحبوب التي يتناولونها.
وليس بالأمر الهين تحرير العقول من أغلال الفكر العقيم سواء التي كانت نتيجة عوامل داخلية أو خارجية، فكلما ضعفت المناعة الفكرية والحصانة العقلية وبقيت على حالها العوامل الخارجية، إلا وتغلب العقم وازدادت صعوبة القضاء عليه لضعف في البنية الهيكلية الداخلية لهاته العقول.
ومن العيب أن نعيش في القرن الواحد والعشرين وما زال هناك من يعتبر العقم الفكري في العالم العربي قدر أبدي لا خلاص منه، وهذا مخالف لسنة التطور، فنحن لدينا الكثير من العوامل، وبخاصة الاقتصادية والحضارية والاجتماعية والعقائدية، فضلاً عن القيم التي تجعلنا قادرين على قطع مسافة الإنجاز العلمي والفكري بيننا وبين الغرب، والتقليل من الفجوة النفسية التي نشعر بها الآن... فقط كل ما نحتاجه أن نحسن عملية التفكير عند الناس، وأن نعلمهم قواعد جديدة للتفكير السليم، وأن نرسخ في الذهنية العربية مسألة الحوار الفكري الجاد والنقد الهادف، وأن تكون لدينا مساحة واسعة لحرية الرأي وحرية النقد، وحيوية في مجال البحث العلمي، وأن نجعل مسألة الشفافية والمكاشفة والمساءلة... ثقافة عامة في المجتمع، أي أن تكون لدينا إرادة قوية لا تعرف المستحيل ولا تستسلم للهزيمة النفسية، وعقول لديها أعلى مراتب المهارات اللازمة للتطور... أخذاً بفريضة التفكير.
لذا فلا بد من حدوث نهضة شاملة تغير عقلية الإنسان العربي، وتجعل منه إنسانا متنورا أكثر وعيا وإبداعا ..
اضافةتعليق
التعليقات