يرقات سحرية تقف على حافة الشفاه منتظرة أمر أن تصبح فراشة لتتزود من حبالنا الصوتية ألوانها البراقة، ثم تخرج كسَهمٍ يمزق حواجز الصمت، ويخترق القلوب فيدميها حتى يرسم اثره جرح غائر لا يندمل، أو يهتك ستر الظلام المختبئ في النفوس ليوقد مشاعل السعادة وفوانيس الحب، هو سحر لا يتطلب تعويذات او طلاسم فقط يحتاج اشارة واحدة تبعث من العقل بعباراتها إلى الحنجرة فتحرر اليرقات انطلاقا من الفم.
إن للكلمات أثر يعادل أثر رصاصة اخترقت الجسد فأودت به قتيلا دونما حراك أو شعور، بينما الكلمة تبقى كموس داخل الأحشاء كلما استذكرتها ينزف مكانه، فعندما سأل أحد الصحفيين توماس أديسون عن شعوره حيال 25 ألف محاولة فاشلة قبل النجاح في اختراع بطارية تخزين بسيطة؟، أجاب: لست أفهم لم تُسميها محاولات فاشلة؟ أنا أعرف الآن 25 ألف طريقة لا يمكنك بها صنع بطارية، ويُعد أديسون من أعظم المخترعين في التاريخ، عندما دخل المدرسة، بدأ معلموه بالشكوى من بطء استيعابه وإهماله، فقررت والدته أن تدرس له في المنزل، فقد كان أديسون مولعا بالعلوم، وفي سن العاشرة أعد مختبرا كيميائيا في منزله، لينتهي به المطاف إلى تسجيل ما يقارب 243 اختراعا باسمه، كان لها الأثر الواضح في حياة إنسان العصر الحديث.
يقول أديسون: أنا لم أفشل أبدا، فقد اخترعت المصباح في النهاية، لقد كانت عملية من ألفي خطوة، ولا بد من اجتيازها للوصول إلى ذلك، وقد دُمر مختبر أديسون في حريق كبير عام 1914م، وفي ذلك اليوم هُرِع الابن الأكبر لأديسون، (تشارلز)، باحثا عن أبيه، فوجده واقفا يراقب اللهب المتصاعد بهدوء، يقول ابنه: شعرت بحزن شديد من أجله، لقد كان في السابعة والستين من العمر، ولم يكن شابا، عندما التهمت النيران كل شيء، وحين انتبه أديسون لوجود تشارلز صاح به قائلا: أين أمك؟ فأجاب بأنه لا يعرف، حينها طلب منه أن يجدها قائلا له: أوجدها بسرعة، فلن تشهد منظرا كهذا ما حييت، وفي صباح اليوم المقبل، تفقد أديسون الركام الذي خلفه الحريق، فقال: هناك فائدة عظيمة لما حصل أمس، فقد احترقت كل أخطائنا، الحمد لله يمكننا البدء من جديد.
بقي أن نعرف أن وراء هذا المخترع العظيم تقف أم استثنائية بكل الأبعاد، فبعد أن تلقت رسالة من مُدرسة ابنها، عندما كان في الثامنة من عمره، تبلغها بطرد ابنها من المدرسة بسبب غبائه المفرط، وضعف استيعابه واتهامه بخفة العقل، فتلقت الرسالة بكل هدوء، وعندما سألها ابنها عن فحوى الرسالة؟ قالت له: إن المدرسة تقول: إنه لا يمكن قبول استمرارك في المدرسة بسبب ذكائك وعبقريتك المفرطة، وهذه المدرسة لا تناسب هذه النوعية من الطلاب، فمن الأفضل البحث عن مدرسة بديلة تناسب قدراتك، فيكتشف ابنها فحوى الرسالة الحقيقية بعد وفاتها، عندما كان يفتش في أوراقها، ليعقد عزيمته أن يكون عند حسن ظنها فيه، ويبهر العالم بهذه المنجزات، التي كان يحدث نفسه بها وأصحابه دائما، ثم نرى بعد ذلك اختراعاته تتوالى، ولا يكاد يخلو منها منزل على ظهر هذا الكوكب.
هكذا هو سحر الكلام الجميل وتحويره حين يناسب المقام، وتأثيره في كوامن النفس البشرية، وإطلاق ما تحويه من قدرات وملكات، كذلك هي وصية الله لعباده في محكم التنزيل بقوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، عجيب أمر هذه الكلمات، إنها مخلوقات تؤلف وتباعد، تجرح وتضمد، تحزن وتسعد، فالكلمات التي نمطر بها سماء الآخرين حبا أو غضبا هي وسيلتنا لإيصال أفكارنا، وعلى أساسها تتشكل العلاقات، لأن المرء مظهر ومضمون، أما المظهر فهو واضح للعيان، في حين يكون المضمون في الفكر، ولا يظهر إلا من خلال الكلام ومن ثم السلوك.
يقول الامام علي ( عليه السلام ): «المرءُ مخبوءٌ تحت لسانه» وقال سقراط: «تكلم حتى أراك»، لكن البعض يستعمل الكلمة في خداع الناس، وهو مدرك تأثيرها السحري، فإذا حدث ذلك معك، يقتصر الضرر عليك أنت فقط، فكم من الأشخاص كرهناهم لكلماتهم القاسية، وكم أحببناهم لكلماتهم الراقية، ومن نعجب منهم إذ لا يقدرون على النطق بكلمة طيبة، وتمر بخاطري، المقولة الشهيرة للعالم النفسي النمساوي الشهير سيجموند فرويد: "نستطيع وبكل جدارة أن نقاوم الهجوم والنقد، لكننا عاجزون تماما أمام الثناء".
فجربوا العلاج بالكلمات، وافتحوا لها مجرى في حياتكم انتقوها وزينوا بها مجالسكم فكلنا تذوقنا مرارة الكلمات يوما وتارة برودتها وعذوبتها ومررنا بشتى فصولها فما كان منها لطيفا هو أجمل الفصول التي رافقت أنفسنا على مدار الأيام وكلما زارنا حزنا استذكرناها، فازرعوا الكلمة الطيبة لثمار طيبة كما قال رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله): (الكلمة الطيبة صدقة) فالكلمة الطيبة في موسم جفاف الأرواح أعذب من الماء البارد وهي الأولى بالديمومة والبقاء والأحق بأن نتخذها أسلوب حياة.
اضافةتعليق
التعليقات