في صمت الليالي المقدسة، حيث يتنزل الوحي ويشرف جبريل (عليه السلام)، كانت خديجة الكبرى تجلس في حجرة تنبعث منها أنوار الغيب، تسمع ما لا يسمعه البشر، وتحاور من لا يراه أحد، تسمع صوتاً ينبعث من أحشائها، صوتاً ناعماً يهدهد قلبها، يحدثها ويصبرها، يملأ روحها طمأنينة وأنساً، كان هذا الصوت المعجز هو صوت ابنتها التي لم تولد بعد، صوت فاطمة الزهراء (عليها السلام)، تلك الطفلة التي أراد الله أن يكون ميلادها معجزة تسبق ميلادها الجسدي، فلم تكن خديجة (عليها السلام) تحمل جنيناً عادياً، بل كانت تحمل سراً إلهياً، نوراً مقدساً، قصة كتبتها الملائكة في اللوح المحفوظ، كانت تخفي هذا السر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أياماً، كأنها تحتفظ بكنز ثمين لا يليق أن يُكشف إلا في وقته المقدس، حتى جاء اليوم الذي دخل فيه النبي عليها فسمع همسات خفية، حواراً لا جسد له لكنه ممتلئ بالروح.
"يا خديجة، من تحدثين؟" سأل النبي بنبرة تعجب ممزوجة بالخشوع.
أجابت خديجة بصوت يهتز إجلالاً: "الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني".
في تلك اللحظة انكشف السر الأعظم، فتبسم رسول الله (صلى الله عليه واله) وقال: "يا خديجة، هذا جبرئيل يبشرني..."
نبوءة النور الذي سيضيء الدهر
لم تكن البشرى مجرد خبر ميلاد، بل كانت خارطة طريق للمستقبل، ونبوءة سماوية بمصير الأمة:
"يبشرني أنها أنثى"، ولكن ليست أنثى عادية، بل هي المرأة الكاملة، النموذج الأسمى للأنوثة المقدسة: "وأنها النسلة الطاهرة الميمونة"، طهارة تبدأ من الأصل وتستمر في الفرع، بركة تمتد عبر الأجيال، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل استمرار نور الرسول من هذه البنت المباركة، وسيجعل من نسلها أئمة ، قادة الهدى، مصابيح الدجى، الذين سيحملون راية الإسلام بعد انقطاع الوحي ،ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه، خلافة عن الله في حفظ دينه وإرشاد خلقه ، في العشرين من جمادى الآخرة، يومٌ اهتزت فيه الأرض ابتهاجاً، وتراقصت أنوار السماء فرحاً، في بيت النبوة، بين أحضان خديجة الكبرى، انشق الأفق بولادة كريمة محمد (صلى الله عليه واله)، قيل إن نوراً انبعث من بيت خديجة حتى أضاء مشارق المدينة ومغاربها.
وضعت خديجة طفلتها بين يدي رسول الله، فنظر إليها نظرة أبٍ يرى في ابنته مستقبل أمته وخلافة دينه، قبلها النبي (ص) وقبل جبينها المبارك، وهمس: "سلام الله عليك يا بضعة قلبي وثمرة فؤادي".
لقد رأى في عينيها الصغيرتين نور الحسين، وصبر الحسن، وحكمة زينب، رأى في تلك الطفلة أمهات وأئمة وشهداء، فنشأت فاطمة في حجر النبوة، تشب وتكبر بنورٍ مختلف، طفلةٌ لكنها تحمل حكمة الكبار، صغيرةٌ لكنها تفقه ما لا يفقه العظماء، كانت تلعب بين يدي أبيها لكن حديثها كان نوراً، وحركاتها بركة، ونظراتها حكمة، حفظت الوحي قبل أن تحفظ الكلام، وعرفت الله قبل أن تعرف العالم، وما إن كبرت حتى صارت النموذج الكامل للمرأة المسلمة، العابدة القانتة، العالمة الفقيهة، الزوجة المطيعة، الأم الحنون، التي رسمت لنا دروساً خالدة:
1. المرأة كرامة وليست هواناً، فالسيدة فاطمة (ع) أثبتت أن المرأة يمكن أن تكون أعظم من الرجال في المقامات الروحية.
2. البركة في الطهارة، فمن طهر الأصل جاء الفرع الطاهر، ومن نقاء القلب تنجب القيادات الربانية.
3. الحوار مع الأبناء يبدأ قبل الولادة، فما أحوج الأمهات اليوم إلى أن يحدثن أجنتهم بكلام الله وذكره.
4. البنات بركات، فلو لم تكن للسيدة فاطمة (عليها السلام)، لما استمر نسل الرسول (صلى الله عليه واله)، ولما كان للأئمة من بعده وجود.
واليوم، ونحن نستذكر ذكرى ميلاد سيدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، لا نستذكر حدثاً تاريخياً فحسب، بل نستحضر شمساً أبدية تضيء قلوب المؤمنين عبر العصور، إنها ليست ابنة نبي فحسب، بل هي أم أبيها كما كان يلقبها الرسول، وهي كوكب دري أضاء بنوره تاريخ الإسلام، وهي الشفاء لمن تعلق بحبها، وهي الوسيلة إلى الله عز وجل.
ميلاد الزهراء كان ميلاداً:
· للطهر في عالم تملؤه الشوائب
· للعفاف في زمن تنتشر فيه الرذائل
· للحكمة في عصر تطغى فيه الجهالة
· للحب في عالم يموج بالكراهية
فسلامٌ عليك يا بنت رسول الله، سلامٌ عليك يا أم الحسن والحسين، يا سيدة نساء العالمين، فأنتِ النور الذي سبق ميلاده حديث الملائكة، وأنتِ البركة التي بارك الله بها ذرية نبيه، والقنديل الذي يضيء دروب المحبين إلى يوم الدين، فلقد ولدتِ من نور، فصرتِ نوراً لكل من يبحث عن النور، وستبقين نوراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.








اضافةتعليق
التعليقات