شارك أكثر من 150 شخصا في لبنان في مشروع "الإصغاء بعمق"، الذي يديره المجلس الثقافي البريطاني بالشراكة مع بي بي سي، ويهدف المشروع إلى تعليم مهارات التعاطف والصمت والإقلاع عن إطلاق الأحكام على الآخرين.
وبعد مرور عام على المشروع، تدرك حوراء إحدى المشاركات لمدى المساعدة التي قدمها لها لتصبح أكثر انفتاحا وأوسع أفقا وأكثر تقبلا للآخر.
"لقد تعلمت أن أصغي للآخرين، لا أن أطلق الأحكام بل أن أحاول أن اتفهمهم وأعطيهم الوقت الكافي لشرح أنفسهم ولإيصال الرسائل التي يريدونها.. ثم أحاول استيضاح كافة الجوانب لأتأكد من أنني أفهم تماما ما يريدون إيصاله لي".
وترى حوراء أن مواقفها السابقة التي كانت تتسم بالتعصب وعدم التسامح شملت كل من يختلف عنها.
تقول: "كنت أعارض وجود اللاجئين السوريين في لبنان.. كنت أفكر فيهم على أنهم لا يهتمون بنظافتهم ولا يعيشون حياة لائقة، بالمقاييس اللبنانية".
لكن حوراء باتت اليوم تعمل في مدرسة للاجئين السوريين بعد ظهر كل ثلاثاء، على الرغم من رد الفعل الذي يكتنفه التعجب والذهول من قبل عائلتها. كل صباح، تتواصل حوراء مع ميادة، وهي لاجئة من سوريا مهنتها التمريض، أثناء احتسائها لقهوتها الصباحية. التقت السيدتان لأول مرة عندما كانت ميادة ترعى والدة حوراء، والآن أصبحتا تزوران بعضهما في المنزل يوميا تقريبا".
تقول حوراء إن علاقتها مع ميادة ساعدتها في أن تصبح أكثر تسامحا: "في الماضي، ربما لم أتواصل بشكل فعال مع هؤلاء الأشخاص، أو ربما كنت أستمع فقط إلى وسائل الإعلام التي تلعب دورا في تصنيف ووصم الأشخاص.. إذا استمعنا لبعضنا البعض، نجد أن لدينا العديد من القواسم المشتركة ، فنحن جميعا نتشارك المشاعر الإنسانية".
كان محمد، وهو عامل في مجال الإغاثة الإنسانية من لبنان، يدرك أنه ليس مستمعا جيدا، وأن ذلك يعيق التفاوض، الذي يعد جزءا مهما من وظيفته. يقول: "كنت ذلك الشخص الذي يقاطع المتحدث طوال الوقت، ذلك الذي كان يعتقد أنه يعرف دائما ما يحاول الآخر إيصاله له حتى قبل أن يتفوه الآخر بكلمة..كنت دوما استبق الأحداث وأبدأ بصياغة الافتراضات جزافا، ثم أحاول بعد ذلك إثبات تلك الافتراضات..الافتراضات والأحكام المسبقة قد تكون قاتلة".
بعد فترة وجيزة من التدريب، تولى محمد وظيفة في مدينة الموصل في العراق، حيث عمل مع السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة لوضع خطة لترتيب أوضاع النازحين في المدينة. للنجاح في منصبه الجديد، كان على محمد أن يوفق بين العديد من الأطراف المختلفة التي تحمل مجموعة من الأفكار المتضاربة.
"هل يجب أن نعيد النازحين إلى ديارهم؟ أم ينبغي أن نحاول دمجهم في المدينة التي يتواجدون فيها؟ هل يقبلون العيش في حي مع أناس من قبيلة مختلفة؟" كل تلك الأسئلة كان على محمد أن يتعامل معها.
يتذكر محمد بوضوح الإحاطة التي تلقاها قبل أن يبدأ عمله، حينها كانت زميلة له تشرح له متطلبات العمل والمسؤوليات المترتبة عليه، بدأ يشعر أن هناك معلومات أساسية سيحتاجها ولكن زميلته لم تشاركه تلك المعلومات.
"حين تعمل في القطاع الإنساني، تحتاج إلى فهم شخصيات كافة الأطراف المعنية من أجل التنسيق بشكل فعال..من هو الشخص الداعم، ومن هو المفسد، ومن هو المعرقل".
في تلك اللحظة، تذكر محمد التدريب على الإصغاء وأهمية إعطاء أي شخص مساحة بعد انتهاء حديثه، ليس فقط كدليل على الاحترام وإنما أيضا للسماح له بمشاركة المزيد.. بعد أن انتهت زميلته من الكلام، انتظر لمدة 20 ثانية".
يقول: "في تلك الثواني العشرين، تمكنت من اكتساب القليل من الثقة والانسجام بصورة ما معها... بعد هذه المساحة، تغيرت علاقتنا بطريقة ما، وشاركتني تجاربها الحقيقية وتصوراتها للشخصيات الرئيسية التي سأحتاج إلى العمل معها".
بعد ثلاثة أشهر، يعزو محمد الفضل في تمكينه من فهم كيفية عمل المدينة وإحراز تقدم كبير في خطط استجابة منسقة، إلى تلك الثواني العشرين وإلى تطبيقه تلك التقنيات التي تعلمها في برنامج "الإصغاء بعمق".
غير أن هناك لحظات يحاول فيها محمد جاهدا الابتعاد قدر الإمكان عن استخدام مهارات الاستماع التي اكتسبها حديثا بعد برنامج "الإصغاء العميق".
يقول: "في قطاع الإغاثة الإنسانية، إذا أصبحت جيدا بالفعل، وبتّ تجري محادثات مع الكثير من الأشخاص، فإنك تأخذ نفسك إلى مستوى عاطفي عميق جدا قد لا تكون مستعدا له".
يخبرني محمد عن محادثة أجراها مع سائق تاكسي أطلعه خلالها على قصته وكيفية تعرضه للجلد 18 مرة لارتكابه "جريمة" أيصال امرأة بسيارته دون أن يكون معها مرافق ذكر، وهو الأمر الذي كان ممنوعا عندما كانت المدينة تحت سيطرة تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية.
يشرح محمد باهتمام بالغ: "هناك جانب مظلم للإصغاء بعمق..فأنا أعلم تمام العلم أنه في هذا الوقت ، إجراء مثل هذا النوع من المحادثات لا يعد أمرا آمنا بالنسبة لي، إذ أحتاج إلى أن أكون قادرا على فصل نفسي عن تجربة الآخرين ومعاناتهم.. شخصيا، لست مستعدا بعد لإتقان هذا الجانب العاطفي".
وبالعودة لحوراء، لا بد من السؤال: كيف توفق بين معتقداتها الجديدة وتربيتها وقيم والدها التي نشأت عليها؟
لقد توفي والدها قبل بضع سنوات، لكن حوراء تزور قبره كل يوم خميس، وتقول: "أشعر أنه يستطيع رؤيتي من السماء، وأنا مقتنعة تماما بأنه سعيد وفخور بي".
وتضيف "كلما عرفنا الناس أكثر، قل خوفنا منهم.. وبتنا أقل تسرعا في إطلاق الأحكام عليهم. ولربما يصبح إدراك أن البشر متشابهون في إنسانيتهم أمرا أكثر سهولة". حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات