أن تقف على لا شيء، وأن يتجرد الواقع من تراكم الخبرة، أن تستدير حركة المجتمع لتبدأ من الصفر دائماً، ينهار البناء قبل أن تتشكل الذائقة، وقبل حتى أن يرسخ اتجاهاً معرفياً، تتفرغ الإشارات من دلالاتها، أو تنبثق إشارات فارغة من أي معنى، قد تكون الإشارة رجلاً أو حزباً أو أمة، وقد تكون علامة ضوئية لتنظيم حركة المرور، فهذا يعني كما لو أنك دماغ في أحماض في زجاجة، دماغ مؤجل، لكنه أيضاً في اللحظة ذاتها متأهب للإنقضاض على معنى مغاير للحياة، يعني أن تكون باحثاً ذهنياً بلا ميل عاطفي تجاه تعريف ما أو قراءة ما للوضع الاجتماعي الذي أنت فيه، أو لوجود الإنسان في العالم ككل.
لحظة عدمية هائلة لا يمكن النجاة منها إلا بقانون الإرادة، أن تعترف بتجربتك الخاصة، وحقك الخاص في الحياة، وبأنك لا تمثل أحداً سواك، أنت ذاتك فحسب، وأن تنحاز لها، هكذا، الذات حاضر يتقدم، إنها المستقبل الآن، فالإنحياز للإمكانيات الكامنة للذات هو انحياز الحاضر للمستقبل، من هنا يبدأ العالم القادم بالتشكل، والظهور. يجب أن نعي أن المستقبل جنين يرتبط بحبل سري مع رغبتنا على الانفتاح والتحرر.
يمكنني هنا أن أتحدث عن تجربة خاصة جداً، لقد مررت بذلك حقاً، عندما وجدتني وجها لوجه مع جنين المتحف الطبيعي في جامعة بغداد، حدث ذلك عام ١٩٨١ ، كان الجنين في شهره الخامس أو السادس، محفوظاً داخل أحماض في زجاجة، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها جنيناً بشرياً مُجهضاً، أرعبتني التجاعيد التي تشير إلى كآبة حادة، لم يكن وجهه وجه جنين، كان كائناً بشرياً في الستين أو في السبعين أو في المائة من عمره، هل يمكن للإقامة في الرحم أن تكون بهذا الثقل؟ لماذا توقف عند هذا الحد؟ ما الذي أعاقه عن الخروج؟ لقد خرج، لكن، ليس كما لا بد أن يكون، لم يرفس باب الرحم، لم تفتح يده ستائر العتمة، ولم يخترق الضوء عينيه.
استقر الشكل في رأسي، أصبحت أنا الرحم، بدأ الجنين/ السؤال ينمو، وبدأت أحس بحركة الجنين في داخلي، الجنين الذي أصبح توأمي في زجاجة هائلة هي العالم، لم يحدث ذلك مثل صاعقة، بل تشكل أيضاً كجنين، كلما شعرت بالضيق تجلى الجنين وأحسست بالأحماض، فألجأ إلى المرآة أراقب عيني واستداراتها، أتحسّسني، كما لو أنني أحد آخر، أحد يريد أن يخرج، يريد أن يولد، وفي النهاية خرج نصّاً، صعّادة هائلة بالنسبة لي، تجربة في الوعي وفي الحس أيضاً، عندما يتحول اليوم إلى سائل حامضي، ولا نجاة من الزجاجة إلا باحتوائها، لذا ختمت به مجموعتي «صعادات»: «عالق في الذهن كتوأم، هذا الحنين ليس غريباً تماماً، طالت عليك شهور الحمل، أنا قلق، لسبب أجهله دائما،ً ربما لأنك معي في الزجاجة وفي الأحماض لكنني واثق تماماً أننا نولد يوماً ما».
كتبت النص النهائي عام 1997 بعد إجهاضات عديدة، حتى النص أصر على أن لا يولد ولادة طبيعية، كان العراق لحظتها مُسيجاً بحصارات من الداخل ومن الخارج معاً، وكنت في الزجاجة أتحسس الأحماض، ولم يكن الجنين فقط، بل العالم كله في الزجاجة، حتى النجوم والمجرات، كانت الزجاجة الفخ، وكنا جميعاً في الفخ، نبحث عن مسامة للنجاة.
قد تكون الزجاجة دلالة لأي فكرة، أو لأي ممارسة اجتماعية، لكوكب، وقد تكون الأحماض هي الآليات التي تفرض أو حتى على الذات عقمها القسري، تعمل على إصابة الذات بالشلل، غير أن الإحساس بالعوق يبقى تجربة شخصية جداً، فما أراه شللاً قد يراه آخر نافذة للحياة، لكنني أتحدث عن تجربة حياتية تتحسس العوق داخل النظام القسري، وتحاول بإمكانياتها أن تخرج على النظام، من هنا قد تطول إقامة الدماغ في أحماض الزجاجة لعدم توفر إمكانية الخروج، ولعل الكثيرين يعبرون الوقت وهم في غيبوبة الانتظار، في انتظار لحظاتهم الخاصة، أو في انتظار حيواتهم المؤجلة. في النهاية، الإعلان عن الذات شأنٌ فردي، وشخصي جداً، على عكس الإقامة في الغيبوبة فهي - شأن جمعي. الذي يعجل في إنهاء غيبوبة الدماغ، لا السؤال، بل اتجاه السؤال. إتجاه السؤال هو منطقة إلتقاط الذات مـن هـوة الـيـقـيـن الاجتماعي أو اليقين الجمعي، والقلق هو مخاض الإلتقاط، والمتنبي عبر أسئلته المدببة الأولى «إلتقط ذاته» على حد تجربة [أحمد سعداوي].
عندما يزداد ضغط الخارج على الذات، يبدأ صراع الأنا التي لا تريد أن تكون فائضاً بشرياً، لا تريد أن تكون عدداً على المدرج، بل تريد أن تكون اللاعب الأساس / رأس الحربة، مارادونا مثلاً، من هنا تكون كثرة (الأنا) في نصوص المنفتح نوعا من الإجابة على أسئلة تعيش معه، فيه، في جدله الذاتي، أو في صراعه مع التابوات كأشخاص، وكأفكار عبر ممارسات يومية. أقول جهاراً: توهج الأنا شرط التحقق .
اضافةتعليق
التعليقات