يعتبر العراق من البلاد الغنية بالخيرات والثروات، ولهذا السبب الجغرافي المميز يعد البلد اليوم وجبة شهية أو بالأحرى كعكة لذيذة لسباع الفساد التي تأكل من لحم المواطن الفقير ولا تشبع.
ويمثل الفساد العدو الداخلي الذي يعد أخطر من العدو الخارجي، لأنه يستنزف قوة البلد الاقتصادية من الداخل، ولا تتوقف دوامة الفساد عند ضرب الاقتصاد ونهب الأموال، بل يتعدى ذلك إلى بيع المصلحة الوطنية والتجاوز على الأمن العام لأن الفاسد والسارق لا يهمه شيء سوى مصلحته الشخصية فمن الممكن أن تتم عمليات التهريب وتفعيل الإرهاب والتجاوزات الأمنية والكثير الكثير من الأمور التي تشكل خطرا على البلاد والتي قد تصل بالفرد بأن يبيع وطنه من أجل المال والمنصب ولهذا يسبب الفساد تهديدا خطيرا على البلد من جانب الأمن والثقافة والاقتصاد وكل ما يتعلق به.
لهذا السبب فمن الوسائل المهمة للحفاظ على الوطن هو خلع الفساد من جذوره، إذ إن عزل الرأس الكبير للفساد ليس كافيا بل إن هنالك الكثير من أتباعه الذين سيتصيدون الفرصة من أجل نيل مبتغاهم فيما بعد..
فبعد انتهاء الفترة المظلمة التي حكم بها "صدام حسين" صدر قرار بإجتثاث حزب البعث الذي كان يمثل امتداد صريح وواضح لوكر الظلم والفساد في العراق..
لتبدأ بعدها فترات حالكة أيضا لعب من خلالها أصحاب المصالح تحت الطاولة لعبة النهب والسرقة بمشاركة نفوذ داخلية وخارجية لهم مصالحهم الخاصة في توجيه العراق نحو الخراب والهلاك.
ولأن الفترة السياسية والاقتصادية المزدهرة التي مرت في التاريخ هي فترة حكم الامام علي (عليه السلام) والذي حقق من خلالها أعجوبة العالم في القضاء تماما على الفقر، والتحكم السليم بوكر الفساد، نجد ضرورة ملحة للعودة إلى عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر الذي جاء فيه: "إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام! فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثما على إثمه".
لنجد بأن المولى يؤكد على مالك الأشتر معرفة الأشرار الذين كانوا يحوكون الفساد لرئيسهم السابق، وبأن الوزير الفاسد حتى وإن تغير رئيسه الفاسد برئيس صالح سيبقى وفيا ومخلصا للفساد وليس للرئيس!.
فمعرفة هؤلاء القوم وتشخيص مصلحة البلد هو أمر مهم جدا لا يتم إلاّ بعزل الفئة الفاسدة أجمع من الحكم، وتغييرها بأناس صالحين.
وإن "رقابة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للموظفين كانت في رأس سياسته الإدارية لهم، إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) لا يريد الموظفين لكي يسبحوا باسمه، شأن كثير من الحكام والساسة، وإنما يريدهم يسبحون باسم الله تعالى، يريدهم على طريق الله دقيقاً وكاملاً ودائماً، لذلك: فكما تم نصبهم على يده، كذلك يرى نفسه مسؤولاً عن تصرفاتهم.
فكان ينصحهم، ثم يوجههم، ثم يعاتبهم على تصرفات غير لائقة، ثم إن لم يفد ذلك كله كان يعمد إلى عزلهم، وعقوبتهم إن استحقوا العقوبة.
فالحصانة الدبلوماسية، والحصانة الإدارية، وحصانة الوظيفة، ونحو هذه المصطلحات لا مفهوم لها عند علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا خرج الدبلوماسي عن الحق، وجار الإداري، وعمد الموظف إلى ما لا يليق به من إجحاف، أو ظلم، أو عدم اهتمام بالأمة..
فالأصل في اختيار الموظف وإبقاء الموظف هو واحد في منطق أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يختلف أحدهما عن الآخر:
(الله: والأمة) هذا هو الأصل الأصيل في اختيار الموظف، وهذا هو الأصل الأصيل في الإبقاء على الموظف.
وقد حفظ التاريخ في هذا المجال: أن بعض المقربين إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فعل ما استوجب به العقوبة، ففر عن علي (عليه السلام)، فأخذوه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال للإمام: «والله إن المقام معك لذل، وإن تركك لكفر». يريد بذلك: أنك لا تفرق بين أصدقائك وغيرهم ولا تسامحهم بما لا تسامح به غيرهم.
وذكر في التاريخ: إن امرأة من بني همدان اسمها (سودة بنت عمارة) شكت إليه والياً فعزله الإمام (عليه السلام) والتفصيل كما يلي:
أخرج الإربلي في (كشف الغمة) عن كتاب (ابن طلحة) عن سودة بنت عمارة الهمدانية في حديث دخولها على معاوية قالت: «والله لقد جئته تعني أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل كان قد ولاّه صدقاتنا فجار علينا.
فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي بلطف ورفق ورحمة وتعطف وقال: ألك حاجة؟، قلت: نعم، فأخبرته الخبر.
فبكى (عليه السلام) ثم قال: رافعاً طرفه إلى السماء: «اللهم أنت الشاهد عليّ وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك».
ثم أخرج (عليه السلام) قطعة جلد فكتب فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم "قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين".
فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه. والسلام».
قالت: ثم دفع الرقعة إلي، فو الله ما ختمها بطين، ولا خذمها، فجئت بالرقعة إلى صاحبه، فانصرف عنا معزولاً»." (السياسة الرشيدة في حكم الامام علي بن ابي طالب).
تغيرت الأزمان وتغيرت طرق السرقة ولكن الفساد يبقى فسادا مهما تطورت الطرق واختلفت الوسائل، وهذه هي السياسة المثلى للتعامل مع بواكر الفساد التي تنتشر في الساحة السياسية اليوم، فالسياسي الذي يجب أن يكون في موضع خادم للأمة أصبح سارقا لها!، فمن لا يعرف الله بحكمه من الأفضل أن يعزل فورا من المنصب ويحاسب حسابا دنيويا ليبقى الحساب الآخروي مع الله، إذ يقول الله عز وجل: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33].
اضافةتعليق
التعليقات