في إحدى الليالي الرمضانية وبينما كنت في رحاب الحضرة الحسينية، تناولت كتاب الزيارة الشامل لكل الزيارات المخصوصة والعامة، وعندما شرعت بزيارة الناحية المقدسة، أحسست وكأني أجوب ثنايا الطف الأليم وعندما وصل مقطع الزيارة للسلام على انصار الامام الحسين (عليه السلام) معدداً إياهم إلى أن وصلت بالسلام على الصحابي الجليل مسلم بن كثير الازدي الاعرج..
وقفت لبرهة عند تساؤل ما:
وهو الاعرج!
فإذا وجدَ لقبه المكّرم فما الداعي لذكر هذه الصفة ملازمةً للّقب ومن هو؟
وماهي تلك المكانة العظيمة والشرف الأكبر الذي لم يحمله إلا الخُلص من شيعة الامام الحُسين عليه السلام؟ وهنا بدأت رحلة بحثي شارعةً للنهل من بحر جود مولى كريم في امهات الكتب، وصحيح اني لم اجد مايثري به المقام ومن هذا القليل استزدت..
الشهيد قد اختلف في أسمه حيث ذهب الأكثر كما هو واضح الى انه مسلم، وقال بعضهم هو أسلم وهناك من ذهب الى أن أسمه سليمان، وقد ورد في زيارة الناحية التي اوردها السيد ابن طاووس "السلام على مسلم بن كثير الازدي".
ومما أختلفوا فيه هو صحبة الشهيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بينما ذهب آخرون إلى انه تابعي كبير.
هنا وعند الدخول الى هذا العالم والبحث عنه انتابني شعور من الراحة وكأني ببستان مليء بأجمل ماخلق الله، ولم يسعني إلا الدخول وأنا أجوب كل شيء فيه، وحري بي الغور اكثر واكثر.. فرحت أسأل عن والده وبحثت وبحثت وهنا كان لي الوقوف:
فوالد شهيدنا الكربلائي من الرواة الثقاة لأحاديث رسول الله، حيث تؤخذ منه أحكام الشريعة ومفاهيم الدين مما يحمل في طيّاته من عظة وعبرة لنا، كما كان لوالده من قصص الجهاد والبطولة في ساحات الدفاع عن الاسلام والمسلمين، وقد كان للأزد عموماً مشاركات واضحة وأيادي بيضاء لاسيما والد الشهيد ولقد منّ الله على والد الشهيد الكربلائي أن هيأ له اصحاباً كانوا في غاية الالتزام بتعاليم الشريعة وأتباع السنن النبوية، واذا كان الاب كذلك فكيف الابن ففي القول الشائع "من شابه أباه فما ظلم"..
شهيدنا الكربلائي كان ذو مواقف راسخة وثابتة الى جانت أمير المؤمنين واخص بالذكر مرحلة من أشد المراحل حراجةٍ، وهي المرحلة التي تسلم فيها أمير المؤمنين الخلافة، حيث أنتفض عليه من باع آخرته بدنياه وغرته الحياة الدنيا، فعن رسول الله (ص) يقول: "علي مع الحق والقرآن والقرآن والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض".
ولقد بين أمير المؤمنين هذه المرحلة بطريقته الخاصة، والتي أشار فيها إلى أمر له ألوان متعددة من الفتنة، في قوله "دعوني والتمسوا غيري، فأنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لاتفوم له القلوب ولاتثبت عليه العقول".
ولأجل اهمية هذه المرحلة، بل أهمية حرب الجمل وماجرى فيها أستدل جميع المسلمون على احكام البغاة فيها لأنها كانت الحرب الاولى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويكفي في عظم هذه الحرب أنها أسالت دماء عشرات الالاف.
بعد معرفة كل هذا تعرف قيمة من ثبث مع علي عليه السلام وعرفت ولاءه ومعرفته به وكان قد أبدى شجاعةً متميزةً في هذه الحرب العظيمة حتى اصيبت إحدى رجليه في هذه الحرب فصار بعدها يعرج.
فقد رماه عمرو بن ظبة التميمي بسهم على ساقه فجرحه ومع كل ماجرى وحصل، خرج الشهيد ثابتاً في أيمانه وولائه لاهل البيت عليهم السلام لاسيما الإمام امير المؤمنين بدليل عظيم وهو وقوفه عمليا إلى جانب الحسين عليه السلام في حرب محسومة النتائج، حيث الشهادة لاغير وهذا لعمري دليل مابعده دليل على صدق الولاء وثبات العقيدة ورسوخ الإيمان وهنا وقفت عاجزة أمام هذا المولى العظيم حيث وطّن نفسه للذود عن أمام زمانه بأغلى مايملك ولايبالي بنفسه طرفة عين ابداً.
وماثباته في حرب الجمل إلا مقدمة لنجاحه في غيرها فدوره المتميز أهلّه ليدخل مدرسة كربلاء والتي لم يدخل اليها إلا من أمتحن الله قلبهِ ولذا نجد الحسين عليه السلام كان يصفي أصحابه بين الفينة والاخرى حتى استقر العدد على مااستقر عليه في كربلاء.
السيد الكريم كان قد سقط جريحاً في معركة الجمل، بعد أن أُصيب برجله ويبدو ان عرجه لم يكن بسيطاً حتى أخذ الناس يعرفوه به وعذر الأعرج في عدم الذهاب إلى الجهاد ورد صريحاً في القرآن الكريم، يقول الله سبحانه وتعالى (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج) فالعرج واحد من الأعذار التي يسقط معها التكليف بالجهاد وهو عذر مقبول عند الله، ولاحرج ولا أثم عليه.
لكن أبى إلا الجهاد والوقوف إلى جانب الحسين عليه السلام وعدم أخذ الرخصة التي ربما تمنعه من الوصول الى درجات عاليةٍ كان يتمنى أن يصل اليها في حروبه وغزواته السابقة فقد كان في توجهه وتفكيره أن يركب هذا القدر ويخلد في قلوب المؤمنين الى يوم القيامة فضلاً عن الاخرة ونعيمها الى جانب سيد شباب الجنة عليه السلام.
وصل للحسين عليه السلام في اليوم الثاني من محرم سنة ٦١ ه، بعد أن وقف الى جانب مسلم بن عقيل في حركته التي قام بها في الكوفة وكأني به وقد وصل الحسين وهو يعرج فتلقاه الحسين واستقبله وضمه الى صدره وقدر له كل الجهد الذي بذله من اجل الوصول إليه وهو بهذه الحالة التي يصعب معها السير الطبيعي فضلاً عن الحركة السريعة التي تقتضيها ظروف الكوفة وأحوالها في ذلك الظرف الخاص.
وهنا كانت المحطة الاخيرة لحياته الكريمة حيث وقف مسلم بن كثير مع اخوته في العقيدة والمبدأ والموالاة لاهل البيت عليهم السلام، الرافضين للظلم الأموي السفياني وقفوا وقفة رجل واحد لم ترعهم كل تلك الآلاف التي وقفت امامهم وهم مدججون بالأسلحة وبدأت رشقات السهام من كل تلك الآلاف صوب أنصار الحسين، وهم ثابتون كالجبال لم يتزلزلوا بل كانوا ينتظروها بفارغ الصبر شوقاً الى الحور العين والى الجنان ومرافقة النبيين حيث جاءتهم الرسل وكانت رسل القوم إليهم كما قال الحسين بعد ان رأى اصحابه يتساقطون مابين قتيل وجريح.
وكان من اولئك الذين سقطوا على رمضاء كربلاء، الاعرج الذي أبى إلا الجهاد بين يدي سيد الشهداء. مسلم بن كثير الازدي..
فسلام عليك أيها المجاهد الناصر، المحب لله ورسوله والمدافع عن حرمات الرسالة ومقدسات الوحي..
وطوبى ل لقبك يا سيدي.. نيشان الفخر والعز والكرامة لا العيب ولا النقيصة..
هنيئا ل قدمك العرجاء التي مضيت بها في سوح الوغى وأبت إلا ان تحمل تذكارا من حروب الاسلام، حيث أصبت فيها في الجمل وكانت قرباناً لولايتك، ووقفت فيها أمام الحسين مدافعاً ولبيت معها الجهاد، فأبليت معها بلاءا حسنا ونصرت معها الدين الحنيف في الوقت الذي تخاذل فيه الكثير من سليمي الجسد، ومرضى الروح..
سلام عليك وعلى روحك وبدنك ورحمة الله وبركاته..
اضافةتعليق
التعليقات