ربما كان التشتت وضعف القدرة على التركيز على موضوع واحد أو قضية واحدة مدة طويلة، أقول: ربما كان هذا هو أكبر تأثير سلبي لوسائل التواصل في أدمغتنا وطرق تفكيرنا، بل في إنجازنا وإبداعنا وأسلوب حياتنا، وهذا يستدعي مني التركيز، وكذلك من القارئ الكريم.
أ- لدينا العديد من الدراسات التي تثبت أن تأثير الأجهزة الحديثة ووسائل التواصل على الانتباه في حالة من التزايد، فقبل خمسة عشرعاماً كان المتخصصون يتحدثون عن أن نسبة 1 مصابون بتشتت الانتباه وفرط الحركة، واليوم ارتفعت النسبة إلى ١٠٪، وهذا مع أنه قد يعود في جزء منه إلى أسباب أخرى مثل الأشعة (الكهرومغناطيسية) إلا أن السبب الأكبر يظل هو الإدمان على محتويات معينة، والارتباط بالكثيرمن المواقع والأجهزة في آن واحد، وفي هذا يقول المثقف الأميركي (نيكولاس كار): إن طبيعة العادات التي تخلقها شاشة الكمبيوتر مثلا لروابط وتداخل الصفحات وعمل مهام متعددة في نفس اللحظة بين الجوال والإيميل والماسنجر والفيسبوك والقراءة من كتاب وغيرها .... يؤدي في الحقيقة إلى تأثيرات سلبية حادة على قدرتنا على التركيز والتحليق الذهني والانعماسي في الفكرة، وهي جميعاً مطلوبة حتى تحقق الكتب الفائدة المطلوبة.
ويؤكد هذا دراسة نشرت في (نييورك تايمز) تقول الدراسة: إن الأشخاص الذين يقومون بمهام متعددة في نفس الوقت، ولا يركزون على مهمة واحدة، لديهم قدرات أضعف في (التركيز) بل إن أداءهم أقل في كل اختبار ذهني أو عصبي مقارنة بمن يركزون على مهمة واحدة.
في دراسة ثالثة شارك فيها نحو نصف مليون طفل من طلاب المرحلة المتوسطة، تبين أن وجود الإنترنت السريع في المنازل والاستخدام المكثف له على علاقة عكسية واضحة بأداء الطلاب في المدارس، ولا سيما في المواد التي تتطلب قدرات ذهنية مثل الرياضيات، بمعنى أنه كلما ارتبط المنزل بالتقنية أكثر قلت قدرات أطفاله على الدراسة.
ب- إن التقنية باتت تقدم للدماغ وللعقل أكثر بكثير مما يحتاجه، فهو يقتات على التركيز والبناء السليم المفردات الذاكرة ومنطق التفكيروتحفيز الإبداع، وهذه المفردات تتناقض تماماً مع طبيعة معايشة التقنية بفوضوية ما تعرضه علينا وبتجاهلها للصوت النخبوي والعلمي الذي يقود الحضارات في العادة، نعم إن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، لا يتطلب أياً من مهارات التركيز، وهذا يجعل الدماغ يتعود قلة التركيز.
ج- الأخبار القصيرة المتوالية بكثافة على تويتر والواتس آب... والتي نقرؤها كل يوم جعلت الدماغ يمل من قراءة الكتب والمقالات، وإن هرمون السعادة (الدوبامين) قد ارتبط إفرازه بتلك الأخبار الجديدة، ولهذا فإننا نتابعها بشغف وشوق، على عكس حالنا مع المقالات العلمية والكتب الجادة.
وهذا يعني أن الصغار - ولا أستثني الكبار - صاروا مشتتين بين ألف لون ولون من المعرفة التافهة أو التي لا تعنيهم على الأقل بعيداً عن بناء معرفة تخصصية متماسكة يحتاجونها في قابل الأيام.
أطفالنا يحتاجون اليوم وغداً أكثر إلى بنية دماغية قادرة على تقييم المعطيات ؛ اتخاذ القرارات المناسبة وإن القراءة في الكتب القيمة هي التي توجد عقلاً هادئاً متمرساً، أما وسائل التواصل، فإنها لا تنتج سوى العقل المشتت والمتنقل.
د- دماغ الطفل والمراهق يختلف عن البالغ؛ إذ إنه يظل في حالة من النمو والتشكل حتى سن الثانية والعشرين، أي عند الانتهاء من مرحلة الدراسية الجامعية، ومن هنا كانت خطورة وسائل التواصل الاجتماعي على الصغار أضعاف ما هي عليه بالنسبة إلى الكبار.
إن الانترنت بتطبيقاته المختلفة يشكّل عقول الصغار ويصوغها بطريقة تتناسب مع نوعية السلوك الذي يمارسونه، حيث إن الخلايا الدماغية ونقاط التشابك العصبي التي لا تستخدم في التركيز وقراءة النصوص الطويلة تضمر، وتضمحل لصالح دعم الخلايا والارتباطات العصبية التي تحفز على القراءة العابرة والتفكير السريع المشتت والتعليم السطحي، وهذا ما يثبته العديد من الدراسات.
باختصار شديد إن الإنترنت تغير في الأدمغة، وتستولي على الوعي، لتقوم بالتالي بتشتيته بين عدد من المعطيات والوافدات المبعثرة، والتي تنشئ من جهتها ذاتاً مبعثرة !.
اضافةتعليق
التعليقات