في زمننا المعاصر هناك فجوة واضحة بين المُثقَّف والمُتديِّن، هوّة سحيقة ومعقّدة تفصل بينهما، بل تصل أحياناً إلى صراع وعداء حول مدى فعاليّة أي منهما في تطور المجتمعات وإرساء القواعد المعرفية المتينة فيها.
من الصعوبة بمكان إدراك طبيعة علاقة كل من الدين والثقافة بدقة، وذلك لاختلاف مفهوم كل منهما لدى الكثير من المفكرين والفلاسفة وتتعدد المفارقات على حسب مشارب كل دين أو عقيدة وتتباين النظرة لهما.
ولعلّنا هنا ندرك أحد أسباب الاختلاف الحاصل، فالتعريف إن كان واسعاً وغير محددٍ أو غير متفق عليه فمن الطبيعي أنهما لن يتصالحا ويجتمعا تحت خندقٍ واحد!.
وعليه نسمع اليوم تراشق الاتهامات بين أتباع الثقافة وأتباع الدين، وكأنّ كل واحد منهما يُسمع الآخر عندما يراه: إذا حضرت الشياطين غابت الملائكة!.
تلك الاضطرابات تلقي بظلالها على المجتمع ككل، هي ليست مجرد اختلافات شخصية بين أفراد، بل محصّلة فكر معوّج ويؤثر على الجميع، فعلى كل شخص أن يتصدى لتقويمه، ويبادر بإزالة العصي عن طريق عجلة مسير الوطن وتطوره.
إذن، وعودة على بدء، نحن نحتاج إلى نظرة جديدة موضوعية ومُتعمقة أكثر، ومعرفة ما مشكلة كل واحد منهما تجاه الآخر..
بدايةً نورد إحدى التعريفات للثقافة وهي: أسلوب حياة، أو التهذيب والتعليم بهدف بناء الحضارة، أو كل مايتعلق بالجانب المعرفي.
والدين بإحدى دلالاته هو مجموعة من الأفكار والقيم والمبادئ وفق المنهج السماوي، أو منظومة من الشعائر والطقوس والعبادات.
أما التعريف الآخر لكل منهما أو تعريف المشكلة بتعبير أدق، هو أنَّ الثقافة كفر وانحلال وتقليد للغرب المشرك.
أما الدين فهو انقياد الانسان التام لتعاليم الإله مهما بدت قاسية وبدون تحكيم العقل، وبتعبير بعض الفلاسفة هو "الجهل المقدس".
نشير هنا إلى أهمية وجود قراءة جديدة عن ما ذُكر أعلاه، وستكون من خلال التركيز على أحد الجوانب المهمة، فالسطور لن تكفي لإحاطة كل الجوانب..
لعل أبرز مالاحظناه في التعريفين هو الاختلاف في مدى سلطة العقل على حياة الانسان، ومدى حرية الفرد في اختيار مايريد، ويدل على ذلك إدعاء الفيلسوف فيورباخ بقوله: "علينا أن نضيئ المناطق المظلمة في الدين بمصابيح العلم حتى لايستخدم في عبودية البشر".
نقول هنا، تلك اختلافات فرعية أتت على أثر خلاف جذري وخلاف أصولي، وتأتى من تساؤل أُثير قبل زمن بعيد وهو: هل أن العقل والشرع صنوان لايفترقان؟
لنعود عدة أحقاب تاريخية، وليحكم المُثقّف المتهِّم للمتدين _الاسلامي تحديداً_ في من كان السبب في هذه الاشكالية، فمحل النزاع هنا هو عندما اختلف العدلية والغير عدلية أي الأشاعرة من جهة والامامية والمعتزلة من جهة أخرى في هل أن للعقل البشري دور في أن يحكم على بعض الاعتقادات، وهل للعقل قابلية للحكم على القبيح والحسن؟
فالأشاعرة يؤمنون بأنَّ القول ماقال الشارع المقدّس، فالانسان هنا مجبر بأفعاله منقادا انقيادا تاما للشريعة المنزلة وبدون نقاش. فقدرة الباري من منظورهم بإمكانها أن تُدخل الشيطان إلى الجنة!.
أما الامامية فقالوا بأنَّ للعقل دور، ولكنه كاشف لأفعال الله وليس بالحكم.. فلا ينفون قدرة الله ولكن للعقل أيضا نصيب كبير، فالله لايفعل الظلم، فبالعقل ليس عدلاً أن يتساوى المسيء مع المحسن؟!.
فالعقل وفق منظور الامامية قبل الشرع يوصل الانسان إلى العقائد الحقّة، _إلا في بعض الحالات الخاصة جداً_ ومن خلاله يُستنبط الصحيح من الخاطئ، فإن أراد المتحاجج إثبات أي نظرية عليه بحشد الأدلة العقلية حولها أولاً ومن ثم تعضيدها بالأدلة النقلية سواء كانت في القرآن أو في الأحاديث الشريفة.
بعدما ذكر ننفي هنا التعريف القائل بأنّ الانسان في الدين عليه أن ينقاد كالقطيع لكل الأحكام، ولاسيما بأنَّ الكثير منها قد حُرِّف، مع هذا بالتأكيد للشريعة ضوابط وثوابت ونصوص ومحرمات في المأكل والعلاقات والملبس... فالعقل وحده لايكفي وهو قاصر في بعض الحالات.
ومثلما أثبتنا أنّ في الدين خلط حسب الاتجاهات والطوائف، كذلك في الثقافة، فهي مع شبه اتفاق، انفتاح على كل جديد، وتتبنى الحرية في الفكر، ولكن هنا يحددها البعض بل يضيف لها الوعي ومراعاة الضوابط الأخلاقية والقيمية لكل مجتمع، فالفن جميل، والعلم تطور، والقراءة والمطالعة حياة، والطعام الغربي شهي، هذا كله لاينافي الدين وغير محرّم إن كان وفق القواعد السليمة.
هذه واحدة وأخرى إنَّ كل من الدين والثقافة سلوك قبل أن يكون أفكار مجردة، فالثقافة ليست فقط دراسة وشهادة ومطالعة كتب، والدين أيضاً ليس فقط عبادات، فهناك مثقفّين من دكاترة ومحامين تجدهم على أبواب السحرة والمشعوذين، وهناك متدينين تجدهم ظالمين لزوجاتهم وأبنائهم، إذن فالفهم والتطبيق العملي هو المهم، فالقراءة المعوّجة للنص الديني أنتجت التفسّخ العقائدي ومنها فتاوي القتل، والعلمنة أيضاً أنتجت الحداثة والحرية المطلقة والانفتاح اللامحدود وبالتالي التنكّر لقوانين السماء.
فالذي حصل هو القراءة الخاطئة والفهم المشوّه لكل من الدين والثقافة، فعلى المثقّف أن يطلّع على أمور الدين كما يطلّع على كل قديم وجديد، وعلى المتدين أن يواكب مظاهر العصر الحديث وأن يكون ملمّا بالاقتصاد والسياسة والاجتماع _ضمن مفهوم الماركسي مثلاً_، وعلى كل منهما معايشة الآخر وإن اختلفوا في بعض المجالات.
وأيضا ما المانع في أن يكون المثقف ذو دين أو العكس؟
أليس الدين قيم وأفكار، والثقافة انفتاح وحرية، فأي أحد هو حر في طقوسه الدينية مادامت لاتجبر المقابل على ممارستها، ومن جانب آخر أليس الله يقول في نص قرآني صريح: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، فاحترام الشعوب الأخرى والتحاور العقلي هو منهج قرآني قبل أن يكون ثقافي، وفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشابه طرح الأفكار ومناقشتها مع الآخر من منظور المثقّف، وكذلك أي ثورة أو نهضة تقوم إن أراد لها النجاح فعلى قادتها أن يكونوا كذلك.
من الشواهد التاريخية على ذلك هو ثورة الامام الحسين عليه السلام، وقوله التاريخي لأعدائه في يوم الطف الأليم: "إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون الميعاد فكونوا أحراراً في دنياكم".
نعم، فالثورة إحدى مفردات الثقافة، ومعركة الطف لم تكن ثورة من أجل الدين فقط، بل من أجل قيم تتبناها كل ثقافات الشعوب المتحضّرة الرافضة للظلم بكافة أشكاله، ولذلك نرى (غاندي) _هندوسي الديانة_ قد ألهمه الحسين مبدأ اللاعنف، فاتخذه قدوة في ثورته ضد الظلم والفقر والاستبداد في الهند ونجح أي نجاح، وكذلك (ادوارد براون) المستشرق الانكليزي تأثر بقضية عاشوراء، ولاعجب فالامام الحسين وأصحابه كانوا لوحة فسيفسائية ضمّت أعراق وثقافات وأديان مختلفة.
وأخيراً الكلام النظري سهل، والتنظير يكثُر، نحن حقيقةً نعيش تخلفّاً واغترابا فكرياً على أثر مانراه من مدّعي الثقافة أو التدين ومايرافقهم من شعارات برّاقة وخادعة، على أمل أن نرى نماذج عملية تجسّد المفهوم الصحيح والرؤية الحقيقية لكل من الدين والثقافة وتتصالح فيما بينها، وتتصدى لبناء الحضارات.
اضافةتعليق
التعليقات