وابتدأت مسيرة زينب... توهموا انهم أسكتوا صوت الحسين برضّهم لصدره بجيادهم الأعوجية، لم يدركوا انهم سبوا دوي صوته الذي زلزل عروش الطغاة وهز كيانهم... نعم انها تلك الخفرة التي لم يرى مثلها قط... خرجت بعد مقتل أخيها الى ساحة الميدان بعد ان قتل جل اهل بيتها يبصرونها بعين الشماتة ظنوا انها ستنهار عندما ترى اشلائهم مقطعة...
لكن بين جنباتها قلب تملؤه العقيدة الحقة ان خاتمتهم خيرا، فمسحت التراب عن جسد اخيها الحسين واخذت بجسده الشريف وهو مقطوع الرأس واتجهت به نحو السماء، صكت اسماعهم كلماتها وأيقنت عقولهم التي لم يدركوا بها غير ملذات الدنيا أنهم سفكوا دماء أطهر خلق الله على وجه البرية فاشعلت وسط العتمة مصباح أمل وزرعت في صحراء الكراهية زهرة عقيدة، رفعت يديها نحو السماء وأطلقت أعظم صرخة تصدر من قلب مكلوم ((اللهم تقبل منا هذا القربان))..
سيروها الى الكوفة وسط ركب الأباء دخلت عليهم فاردت انفاسهم واسكنت اجراسهم بإيماءة يدها فنطق لسانها بكلمات علي ابيها فخلعت عنهم لباس الخديعة الذي حاولوا ان يرتدوه ببكائهم وكشفت معدنهم الصلف النطف والصدر الشنف وملق الإماء وغمز الأعداء تعالت بجلالها عن مخاطبة ابن زياد فمزقت هالة ملكه وسلطانه واهانت مكانته في نفوس الحاضرين فاستشاط غضبا واراد ان يشمت بها قائلا: ((الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم)) حينها اطلقت كلماتها التي كانت كفعل الصاعقة المدوية ((الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد (ص) وطهرنا من الرجس تطهيراً إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة..)).
رغم الاسى والجوى بقيت زينب وتجلت مواقفها امام طغاة عصرها فجسدت أروع مواقف الدفاع عن الحق والتحدي لجبروت الطغاة والظلم عندما دخلت الشام فهزت كرسي ملك يزيد عندما كان في أوج قوته وزهو انتصاره الزائف تحف به قيادات جيشه ورجالات حكمه وزعماء الشام، سمعت يزيد يترنم بهذه الأبيات ليت أشياخي ببدر شهدوا* جزع الخزرج من وقع الأسل وقفت وردت عليه بكل شجاعة وإباء مستصغرة قدره وسلطانه، ومستنكرة فعلته النكراء وقالت: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه حيث قال: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون) (الروم:10).
فمثلت الحق تمثيلا وأضاءت الحقيقة لمن يطلبها سبيلا وافحمت يزيد ومن التف حوله ببلاغة منطقها وابهرت العارفين بحسن قولها فاخذت مجامع قلوبهم بفصاحتها فخرست السنتهم وكممت افواههم وصمت اذانهم وزلزلت شخوصهم الخبيثة حتى بلغ بيزيد الحال انه صبر على تكفيره وتكفير اتباعه، ولم يتمكن من ان يقطع كلامها او يمنعها من الاستمرار في خطابها.
قد يسأل سائل من أين لزينب هذا!! نقول ان حياتها عليها السلام كانت جلها إعداد وتهيئة لهذه المواقف فمذ سنيها الخمس الأولى من عمرها والتي عايشت فيها جدها المصطفى (ص) وهو يقود معارك الجهاد لتثبيت أركان الإسلام ويتحمل هو وعائلته ظروف العناء والخطر والأشهر الثلاثة التي رافقت خلالها أمها الزهراء بعد وفاة الرسول (ص) ورأت أمها تدافع عن مقام الخلافة الشرعي، وتطالب بحقها المصادر وتعترض على ما حصل بعد الرسول من تطورات، وتصارع الحسرات والآلام التي أصابتها ثم بعدها عاشت الفترة الحساسة الخطيرة التي عاصرت فيها حكم أبيها علي وخلافته وما حدث فيها من مشاكل وحروب ثم واكبت محنة أخيها الحسن وما تجرع فيها من غصص وآلام، فكل تلك المعايشة للأحداث والمعاصرة للتطورات كانت لإعداد السيدة زينب (ع) لتؤدي امتحانها الصعب ودورها الخطير في نهضة أخيها الحسين (ع) بكربلاء .
اضافةتعليق
التعليقات