لقد كانت الحياة قبل ظهور السوشيال ميديا حياة بسيطة يعيش كل فرد حسب امكانيته وبحدود قدراتهم المادية لكننا اليوم أصبحنا نعيش، بشكلٍ مخيف، في عالمٍ يفتقد للأصالة والفرادة بحيث بات معظم الأفراد نسخًا متشابهة يسعون لتقليد السلوك ذاته أو الإيمان بالفكرة نفسها والانسياق وراء "التريند" او بالأحرى ثقافة القطيع التي تعتبر من المصطلحات شائعة الاستعمال في وصف العلاقة الفكرية بين الفرد بالجماعة مصطلح ثقافة القطيع.
حيث يطلق هذا المصطلح على السلوك الذي يتبعه الأفراد عند انضمامهم إلى جماعة ما، حيث تتحول تصرفاتهم من تصرفات مبنيّة على التخطيط، والعقلانيّة إلى تصرفات متأثرة بسلوك هذه الجماعة، وقد استمد هذا المصطلح تسميته هذه من سلوك الحيوانات في قطعانها، أو أسرابها، أو جماعاتها التي تلتحق بها، فكل فرد في المجموعة يتبع باقي الأفراد دون التفكير ومعرفة إذا كان ما يفعلونه صحيحًا أو خاطئًا، وهو أمر غير جيد بالنسبة للبشر الذين يمتلكون العقل القادر على التميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ.
العقل الجمعي
وفقا لتجارب آش، يظهر تأثير المطابقة الاجتماعية أو العقل الجمعي في كل مناحي الحياة، ففي المسارح يصفق واحد من الجمهور فيصفق الجميع دون تفكير. وفي فن الإقناع تُظهر الدراسات أن اقتناع الشخص بالتبرع يزداد عندما يجد قائمة بمتبرعين آخرين يعرفهم.
وفي المفاضلة بين شيئين، يختار الناس المطعم أو المقهى الأكثر ازدحاما باعتبار أن الزحام يدل على الأفضلية. كما يزداد اقتناعهم بسلعة ما لكثرة الأشخاص الذين يشترونها، وليس بناء على السعر والميول الشخصية.
أيضا في الصحة، حيث القبول الساحق بأفكار غير مؤكدة وطرق علاجية غير مناسبة للعديد من المرضى لمجرد أنها رائجة.
وفي الموضة حيث يبدأ الكثير من الناس في ارتداء نمط معين من الملابس لمجرد انتشارها. وفي الموسيقى، عندما يستمع المزيد من الناس إلى أغنية معينة، فيتبعهم الكثيرون.
وفي مواقع التواصل الاجتماعي حيث ينشر الأشخاص موضوعا دون التأكد من مصدره، لمجرد أنه مذيل بجملة "أرسله لأكبر عدد ممكن"، ويتجنبون مخالفة التعليقات السائدة غالبا.
وقد نقلد في بعض الأحيان أو نشارك في نشربعض الأشياء مثلا تحدي فنجد أنفسنا فجأة، بصورةٍ غير مفهومة، أصبحنا جزءًا من "التريند" الذي أصبح في غضون يومٍ أو اثنين منتشرًا بطريقةٍ واسعة جدًا استطاعت اختراق جميع الأعمار والجنسيات والخلفيات الدينية، فلا أذكر كيف ومتى أصبحت حساباتي تعجّ بذلك المحتوى، سواء كنت منساقاً مع التحدي، أو ذلك الذي ينتقده وينتقد خائضيه.
قد يكون من الصعب جدًا تحديد السبب الدقيق لسلوك معين. ومع ذلك، يتفق علماء النفس على أنّ البشر عادة ما يميلون إلى تقليد الآخرين ومحاكاتهم دون وعي. باختصار، نحنُ لا ندرك أننا نفعل ذلك. ولعلّ التفسير العلمي الأكثر منطقيةً لهذا التقليد غير الواعي واللاشعوريّ هو الكيفية التي تعمل بها العصبونات المرآتية في أدمغتنا والتي تختص بمحاكاة سلوكيات وعواطف الآخرين من حولنا، بدءًا من مرحلة الطفولة وحتى المراحل المتقدّمة جميعها. تساعد الخلايا العصبية المرآتية في شرح كل شيء من اكتساب اللغة إلى الوعي الذاتي، لما لها من أهمية في فهم تصرفات الآخرين من حولنا، ولتعلم مهارات جديدة عن طريق التقليد والمحاكاة.
ربّما أخذ وقتًا طويلًا مع علماء الأعصاب لاكتشاف هذه العصبونات وطريقة عملها ووظيفتها، لكنّ عصر السوشيال ميديا عزّز من وظيفتها بشكلٍ مثيرٍ للعديد من التساؤلات، فلم تعد الأفكار تستغرق وقتًا طويلًا للانتشار، ولم تعد السلوكيات تحتاج الكثير من الزمان ليتمّ نسخها وتقليدها والإتيان بها. وبكلماتٍ أخرى، يمكننا القول أنّ مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي باتت تستطيع الوصول إلى تلك العصبونات في أدمغة الجميع في وقتٍ واحدٍ تقريبًا في غضون ساعاتٍ أو أقل. لكنّ السؤال هنا لم يعد حول عملية التقليد ذاتها؛ وإنما حول دور الوعي والشعور فيه.
وفي عصرنا الآن حيث نشطت وسائل التواصل الاجتماعي يمكننا بسهولة أن نرى كيف يظهر السلوك القطيعي في نقل الناس للأخبار وتداولها دون أن يتوقف المرسل ليسأل نفسه فقط ما مكون الخبر وما أثره وهل هو خبر مفيد؟
لقد انساق البعض إلى إصمات عقله عن التفكير والتدبر واختار من يكون على هامش الحياة حين سلم عقله للآخرين يقودونه وفق أفكارهم وتصوراتهم فإن ناقشته قال هم يقولون ولم يسأل عقله ماذا يقول؟
هذه السطوة على الإنسان من قبل الجماعة أو ما يسمى بسلوك القطيع تتجلى في قابلية الأفراد إلى الانصياع إلى أفكار وقرارات معينة بغض النظر عن صوابها من خطئها وبالتالي ينتج عنه الانحياز بدون تفكير أو تدقيق في المعلومات.
خطورة ذلك تتجلى في سيطرة المرسل على المستقبل للمعلومة بحيث لا يفسح مجالاً لعقله بالتفكير وبالتالي ينساق دون إرادة لتأثير الأفكار والتصورات التي لم يفكر بصحتها أو جدواها في حياته.
فقد ساعدت طبيعة تكنولوجيا الاتصال في تعزيز ظاهرة الحشد، فالتكنولوجيا توفر للفرد التخفي خلف شاشة ولا تظهر هويته الحقيقية، تماما كما في الحشد الواقعي الذي لا قيمة فيه للفرد أو لهويته، فالفرد يتنكر باسم مستعار إن رغب، وقد يفصح عن هويته لكن نادراً ما تتحقق الثقة بأي هوية بما في ذلك النجوم والمشاهير، وما أن تتجمع النواة الأولى للحشد حتى يبدأ الحشد بإطلاق طاقة غريبة أو مجال يشبه المجال الكهرومغناطيسي قد يجتذب المزيد من الأفراد والجماعات الصغيرة الأخرى مثلما قد يستبعد عناصر أخرى.
في ظاهرة الحشد أو القطيع يفقد الفرد فرديته ويذوب في كتلة غير متجانسة من الأفراد والأفكار والأجساد والأهداف فيبدو شخصاً آخر تماماً، فهو في الواقع عقلاني معتدل المشاعر والسلوك، أما في الحشد فهو انفعالي متطرف المشاعر والسلوك .. في حشد مواقع التواصل الاجتماعي يستمد الفرد قيمته من مشاركته بالصراخ العالي الذي يتمثل في (Comments) والصور الرمزية التي قد تمثل سبابا وشتائم أو نصائح ومثاليات، أو في الهمهمة الخافتة التي تتمثل في (Like) وهي قد لا تعني شيئا محدداً، وذلك نرى بعضهم في مواقع التواصل الاجتماعي يلبس ثوب الداعية لله وللوطن والأخلاق الحميدة، أو ثوب التطرف في المشاعر والأفكار والكلام.
الحصيلة، فإن الحشود على مواقع التواصل الاجتماعي قد تمارس دورها الايجابي في تنشيط المجال العام وفي تفعيل الرأي العام وإنضاجه ومراقبة الأعمال الحكومية، لكنها في الوقت نفسه قد تتصرف بديناميات الحشد وتنزع إلى الفوضى وإلى التعتيم على الأجندة الحقيقية للمجتمع وقد تسهم في تشويه وعيه بدرجة كبيرة، والأمر سيكون في غاية الخطورة في حالات وقوع أزمات حقيقية في المجتمع على خلفيات طائفية أو عرقية أو عشائرية، فلا أحد منا يستطيع التنبؤ بما سيؤول إليه دفع الحشود التي قد تنتقل من فضاء الإنترنت إلى فضاء الواقع.
وفي النهاية يجب أنْ نعي أنّ معرفة الذات ومدّها بالإمكانيات المعرفية اللازمة لتحقيق أصالتها المتفرّدة هي شيء قابل للتنفيذ وليست مستحيلة أبدًا، ونستطيع من خلالها حماية أنفسنا من الآثار السلبية للقطيع، خاصة في نطاق عوالم التواصل الاجتماعيّ. فقد أشارت دراسة نُشرت في دورية "تنمية الطفل" في عام 2011 إلى أن الأطفال في عمر أربع سنوات يطوّرون ميلًا طبيعيًا للتوافق مع المجموعة المحيطة بهم، حتى في حال اعتقادهم أنّ تلك المجموعة على خطأ. لكنّ الأهمّ من ذلك أنّ أولئك الأطفال إذا أُعطوا استقلاليةً أكثر من آبائهم وقدرةً على اتخاذ القرار تبعًا لما تريده الذات والنفس، فإنّهم سيطورون مهارات معرفية أفضل تحميهم من التوافق السلبيّ والانجرار مع القطيع، أيْ تعطيهم قدرةً أكبر على معرفة الذات التي تمكّنهم من السباحة ضد التيار أو "التريند".
اضافةتعليق
التعليقات