لا ضرر في حب النفس والتفاني بعمل كل مايسعدها، ولكن على أن لا نُهمل حب الآخرين وإيثار مصلحتنا على مصلحة المجموعة ابتداءً من الأسرة وحتى المجتمع الذي بصلاحه تصلح الأمة.
كيف يعرف الإنسان أنه وصل إلى كمال الذات الإنسانية السامية؟
في مقال للكاتبة الإنكليزية جنيت وينتر. التي كانت ترافق القوات البريطانية وتشاهد ما يحدث، في عام 2003 نشرت قصة امرأة عراقية في صحيفة نيويورك تايمز. وبعد أن ألهم المقال كتاباً أميركيين تم إصدار كتابين: الأول قصة للأطفال بعنوان "المرأة التي أنقذت مكتبة البصرة"، وآخر حمل عنوان "مهمة عالية"، كما استعرض عمل مسرحي في السويد عن قصتها، ويجري إعداد فيلم وثائقي في مصر عن عملها.
وقد جسدت فيها قصة المرأة العراقية في كتاب للأطفال، كي تشيد بوطنية هذه السيدة ولتكون عبرةً ومثالاً لأطفال أوروبا وأميركا. تتحدَّث هذه القصَّة الواقعيَّة عن شجاعة امرأة اسمها عالية محمد باقر، عزمت بمُفردِها على إنقاذ ثلاثين ألف كتاب من كارثة مُحتَّمة. هذه الرواية الحقيقية جرت في شهر آذار عام 2003، حيث كانت الحرب تلوح أجواء البصرة بعد دخول قوات عسكرية عراقية لتنصب مضادة للطائرات فوق مكتبة البصرة المركزية التي تضم كتبًا ثمينة ومخطوطات قديمة.
عندها كانت هذه السيدة الفاضلة تخشى من نسف وحرق التراث العراقي الموجود في المكتبة، فطلبت من السلطة العراقية نقل الكتب لبيتها لكن رُفض طلبها، وبالتالي، جازفت عالية بشجاعة وقامت بتهريب الكتب ليلاً بمساعدة أهل المنطقة وصاحب مطعم وخباز المنطقة وهم لا يجيدون حتّى القراءة والكتابة. فبعد أن تمكنت عالية من تهريب 30000 كتاب بنقلها بستائر المكتبة بغضون عدة أيام، احترقت المكتبة فيما كانت الكتب بأمان في بيتها. وأُعيد بناء مكتبة البصرة المركزية حيث أعادت السيدة عالية الكتب إلى مكانها وتعينت بدرجة مديرة للمكتبة.
أما اليوم، فكتاب "موظفة مكتبة البصرة" يقرأه أطفال العالم وصُوّرت القصة في مسرحيات عالمية. تروي قصة أمينة المكتبة التي تحملت مسؤولية الحفاظ على تراث مدينتها وعن صون الأمانة الوظيفية.
فسمو ذاتها، حملتها المسؤولية وألزمتها الحفاظ على أرث بلدها الثقافي من الإندثار، فيما لو حُرقت تلك الكتب والمخطوطات النفيسة. فالمسؤولية هي التزام الشخص بما يصدر عنه من قولٍ أو فعل، وتقسم أنواع فمنها المسؤولية القانونية، والأخلاقية، والإجتماعية.
وهي تفسر اصطلاحاً قدرة الشخص على تحمل نتائج العمل الذي يقوم به. نتيجة أفعاله. سواء كانت أفعال جيدة أو سيئة. يقول الرسول صلى الله عليه وآله: (كلكم راعٍ وكلكمْ مسؤول عن رعيّتهِ). فكل شخص له مهمة وهدف في الحياة هو مسؤول عن إتمامُها فيما يرضي الله، وتتجلى المسؤولية في تصرفات الفرد في عدّة مظاهر، فتظهر مسؤولية الفرد الإجتماعية في رعايته للوالدين والأبناء ومن يحتاجون منه دعماً في مجتمعه مثل اليتامى والفقراء وكبار السن وغيرهم، فيما تظهر مسؤوليته المهنية في التزامه بمهام وظيفته وتفانيه وإنجازه للأهداف التي تقتضيها بإخلاص، وحرصه على سير العمل بما يضمن تقدمه ونمائه، ومن مظاهر تحمّل المسؤولية احترام الفرد للقوانين والأنظمة والمحافظة على النظام الاجتماعي، وهو ما يُعرف بالمسؤولية القانونية، كما تعني المسؤولية الشخصية اعتماد الفرد على نفسه ومسؤوليته عن سلوكياته وآرائه، وتعاونه وتفاعله مع الآخرين. وذلك لن يتم إلا بتحرير الذات من سطوة الأنا. وفيما مثلت قصة أمينة مكتبة البصرة صورة للدفاع عن المعرفة والأدب وسط حالة الفوضى والخراب، ووجدت صداها في المجتمع الدولي، فيما يجهل الكثير من العراقيين هذه الشخصية وما قامت به لحفظ إرث المدينة الثقافي. كان دور الحكومة مخجل لتخليد عملها البطولي والوطني الذي تحملت فيه مسؤولية كبيرة في تلك الحقبة الغابرة. وكانت قد وعدتها ببناء نصب يجسد هذا العمل، وإعادة طباعة نسخ الكتب التي صدرت وترجمت للعربية، لكنهم لم يفعلوا أي شيء يذكر.
انتقلت بعدها عالية واستقر بها المقام في كربلاء بعيدا عن مدينتها البصرة - وكانت تقضي أوقاتها في المطالعة والقراءة، إضافة للعلاقات الاجتماعية وحضور النشاطات النسوية، وكان حلمها الذي يشغل تفكيرها أن تجد تلك المكتبة ذات يوم مكتبة شاملة عامة متكاملة تضاهي المكتبات العالمية.
نحن نحتاج إلى أفراد يرتقون إلى سمو الذات وحريصين على وطنيتهم. ونحتاج مصداقية في مسؤولية من هم في مواقع التشريع وسن القوانين. فالحاكم الذي لا يتحمل المسؤولية من المستحيل أن يعطي الأمانة على أكمل وجه وكما يجب أن تكون، بخلاف مقابلة لله عز وجل حين يسأله عن الأمانة التي أعطاها له، حين نتذكر معاً السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومن هؤلاء هو الإمام العادل.
نحتاج من يطهر ذاته من براثين الجهل والتكبر والارتقاء بها إلى سمو النفس البشرية الحقة.
فالقوي من حكم غيره، والعظيم من حكم نفسه.
اضافةتعليق
التعليقات