المقال الفائز بالمرتبة الثانية في المسابقة الأدبية التي أقامها موقع بشرى حياة بمناسبة عيد الغدير
إن أبواب السماوات مشرَعة، تحفّها الملائك من كلِ الجهات، تحتضنُ دعوات العِباد وهي تتصعدُ تِباعًا، قلوبٌ محترقة تصدرُ منها مناجاةٍ مستعرة كأنها شُهبٌ مارقة، تميّزها الملائكة بأنها دعواتُ عِباد مكلومي الفؤاد. تلك أمٌ ثَكلى تدعو أن يرحم الله شهيدها، وذلك أبٌ يسأل الله أن لا يذره فردا، يأنسُ بدعاءِ نبيه زكريا ويأملُ أن يُجازى بيحيى ليُحيي فيه رميم آماله.
دعوات أخرى تصلُ للسماء كغيمٍ محمٍل بالمطر، يرافقها الدمع فتتصعدُ نديّة باردة، أصحابها اعتادوا مناجاة الرحيم والبوح له بمكنونات الصدور. تتلقى الملائكة كل هذه الدعوات ويسمعها السميع الأعظم، فيُجيبُ بعضها، ويُرجئ البعض الآخر إلى أجلٍ مُسمى.
يتحيّن الناس فرص الدعاء ويترقبون أوقاته، فيدعون سُجداً، وفي جوفِ الليل حين ينامُ الخلق، في ليلة القدر، ليالي الجُمَع وغروب نهارها، يوم عرفة، وحين نزول المطر، وغيرها الكثير من الأوقات التي ذُكر استحباب الدعاء فيها، يبحث الناس عن إجابة عاجلة تشفي قلوبهم وتريح أجسادهم، تتأهب منتظرة أن تُفتح أبواب السماء ليجمّعوا كل أمانيهم في أدعية متتابعة.
منهم من يطلب العافية ولا شيء غيرها، ومنهم من يريدُ رزقاً وتوفيقاً ونجاحاً، وآخرون يسألون الله أن يُلهمهم الرِضا في كل الأحوال وتقلبات الزمن، كلٌ يسأل ويدعو ويطلب التعجيل في التلبية والإسراع في تحقيق المُبتغى، والله سُبحانه فوق كل ذي علمٍ عليم.
لا يُمكن فهم حكمة الله في أقداره إلا بالصبر والتسليم، هنالك أشياء كنّا نتمنّى وقوعَها في بداية الأمر، ثم كم شكرنا الله لإنّه لم يُتمّها علينا؛ لأن ما قضى الله به كان أفضل ممّا كنا نتمناه. وتبيّن لنا أنّ المنعَ أحيانًا يكون هو عين العطاء، فليس الأفضل هو ما نرغبه أو نتمناه، ولكن الأفضل هو ما أراده الله تعالى. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، إما أن يعجل له في الدنيا، أو يؤجل له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بمأثم“.1 وهذا هو السرّ الكامن في روح التسليم، فكم من أمرٍ عسير تيّسر بعد يأس، وكم من بابٍ وُجد له مفتاح بعد كرب، فلله الأمر كُله، هو صاحبُ الخير ونحنُ على أبواب رحمته متربصين.
جاء في نص وصية الإمام علي (عليه السلام) لولده الإمام الحسن (عليه السلام) عند انصرافه من صفين: "فَلَا يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِه - فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ - ورُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لأَجْرِ السَّائِلِ - وأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآمِلِ - ورُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلَا تُؤْتَاه - وأُوتِيتَ خَيْراً مِنْه عَاجِلًا أَوْ آجِلًا - أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ - فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَه فِيه هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَه - فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُه - ويُنْفَى عَنْكَ وَبَالُه - فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ ولَا تَبْقَى لَه." 2
إن شطراً كبيراً من معرقلات إتمام رسالتنا الوجودية وفهم عمق الحكمة الإلهية، مرهونٌ باستعجالُنا النتائج، فكُلنا نسارع لزرع البذور، فتنمو كل شجرة بشكلٍ مختلف، بعضنا تخضّر نبتته وتُزهر ثم تُثمر، ثماراً ريّانة مغرية للناظرين، نمواً سريعاً لا تعثّر فيه، فيراها أناسٌ لم تُخضّر نبتتهم بعد، فيتحسّرون ويزدادون تعاسًة وهمًا كل يوم وهم يرون تربتهم لم ينفلق منها شيء. يندبون حظهم تارة، ويلومون القدرَ تارةً أخرى. وفي يومٍ عاصف شديدُ المطر، تقتلع الريح تلك الشجرة المثمرة وتسقي الأمطار تلك التربة المقفرة، فينقلبُ الحال وتتبدلُ الأمور، فلا يدري ذو النعمة أين ذهبت نعمته، ولا يدري ذاك الحزين المتجهّم كيف تبدّل حاله في ظرف ليلةٍ واحدة.
يُخيّل إلينا أن هذه الأرضٌ قد تُحالُ إلى جنة وعالمٍ من الأحلام الزهرية لو أن الأمور كلها أوُكلت إلينا وصار بيدنا زمام التحكم بالأحداث التي تقع في حياتنا. لو كان لنا حق اختيار الأقدار التي نرى أنها تُناسبنا، لو كان لنا القدرة على التشبث باليد التي نعتقد أنها تمُدنا بالحياة، نتخلص من كل شخص لا نرغب بوجوده بيننا، نغيّر المسارات التي لا نود الاستمرار بالسير فيها، لو تراجعنا عن أي خطوة بسهولة فنغيّر مجال دراستنا، ونرفض الوظائف ونلغي عقد زواج ونجهض حملاً ونُلغي سفراً، لتحوّلت أيامنا إلى نعيمٍ مقيم لا يعكر صفوها شيء.
خيالات واسعة تهطلُ على عقولنا القاصِرة، نظن ونظن ونخطط، ولا نعلم أن الخير كل الخير في أقدار الله، في الأمر الذي لم يعجبنا ذاك، أو الفراق الذي أبكانا شهوراً، في الحرمان الذي جعلنا نشعرُ بالخيبة، وبالوقعات التي كادت تجعلنا نتراجع. كلُ ما يضعه الله في طريقنا لسبب، كلُ ما يحصل معنا لا صُدفة فيه، أدقُ الخطوات والتفاصيل مُقدّرة بعناية فائقة نعجزُ عن فهمها إلا بعد حين، فكيف الجزع ونحنُ في أمانةِ إلهٍ لا يغفلُ عنا مقدار طرفة عين.أسئلة وأفكار قاتلة تطحنك طحن الرَحى، كيف؟ لم؟ أين؟ وما الحكمة! في قصة موسى (عليه السلام) والخضر، كان الصبر واليقين بحكمة الفُراق محورين أساسيين للخروج بزُبدةِ الرحلة وفهم أبعادها الباطنة. كان يُمكن لموسى (عليه السلام) أن ينهار قانطاً من انتهاء كل شيء بهذه الطريقة القاسية، أن يتذمر من جهله وتفوّق العبد الصالح عليه بحنكته، أن يعترض على التفسيرات التي أٌلقيت عليه ويشتعل حنقاً لأن الأمر انتهى بهذه الطريقة! لكنه كان واثقاً من إن كل شيء يحصل لسبب، وإن كلُ فِراق أرضيّ يتبعه سموٌ في الوعي والإدراك يُخوّله لبدء مرحلة أكثر تقدُماً ورُقياً. وقد قال سبحانه: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون).3
لا تجود علينا الحياة دائمًا بخِضر يخبرنا التأويل الذي ننتظر، لكن يكفي يقيننا بأن لكل قدرٍ نمرُ به حكمةٌ ما، يكفي أن نؤمن بهذا كيلا نتحسر على ما فاتنا ولا نبقى مترنحين في متاهاتٍ ملتوية، نبحث عن تفسيرٍ هنا وتبريرٍ هناك، نتأملُ معجزاتٍ تنهمر علينا من الفِردوس الأعلى لتُعيد لنا ما فقدناه، ذاك الذي أبعده الرؤوف عنا كي يُحل محله خيرٌ أعظم.
عن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) قال: "لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ بِخَيْرٍ وَرَجَاءٍ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ فَيَقْنَطَ وَيَتْرُكَ الدُّعَاءَ قُلْتُ لَهُ كَيْفَ يَسْتَعْجِلُ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا وَمَا أَرَى الْإِجَابَةَ".4
-
عدة الداعي: ٣٤.
-
نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، شرح : الشيخ محمد عبده، قم، دار الذخائر، الطبعة الأولى، 1412 هـ/1370 ش، ج 3، ص 37.
-
البقرة:216
-
الكافي-الشيخ الكليني الجزء : 2 صفحة490
اضافةتعليق
التعليقات