ليس هناك من نموذج اقتصادي للإعلام بمعزل عن وسائل الإعلام، إذ بين المؤرخ الأميركي بول ستارPaul Starr)) في أعماله أن نموذج وسائل الإعلام الجماهيري المولود في الفترة ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، يعود إلى سلسلة من الصدف، التي نخشى اليوم أنه شكل نوعاً من فاصل سعيد.
إذ إن قيمة الإعلام تفوق الاهتمام المباشر والشخصي الذي نثيره. ذلك أنه ينتج، ما يطلق عليه الاقتصاديون تسمية الآثار الجانبية، أي تلك الآثار التي تتجاوز مجرد استهلاكه المباشر. هذه الآثار الجانبية هي من طبيعة ثقافية، اجتماعية وسياسية.
يشكل تحويل القارئ، على الصعيد الاقتصادي، إلى مواطن قيمة أكبر من مجرد الانتباه الذي يوليه هذا الأخير للإعلام. ذلك أن مستوى الثمن الضروري للحصول على إعلام ذي قيمة يتجاوز، وإلى حد بعيد، التوازن الاقتصادي للنشاط الصحفي.
إذ إن تحميل مستهلك الإعلام كامل كلفة إنتاجه يحمل خطر حصر الوصول إلى الإعلام على القلة، ما يسبب آثاراً جانبية سلبية تتمثل في: تدهور النقاش العام، وصعوبة الحصول على منظومة ديمقراطية مستقرة، ليس بسبب الفروق في الآراء، وإنما بسبب الفروق في مستوى الإعلام المتوفر لمختلف الأفرقاء.
تشكل كـل مـن كـونيـة الوصول إلى المعلومات، والجدوى الاقتصادية، ونوعية الإعلام المنتج وتنوعه، الأضلاع الثلاثة لمثلث غير متوازي الأضلاع. تمكنت الصحافة المكتوبة في عصر توزيعها المكثف من خلال تمويل وصولها إلى القراء من قبل الإعلانات، وبيعها بسعر معتدل أبقته على مستوى الحاجات الأساسية، وأمكنها بالتالي من حل معادلة النوعية وقابلية الوصول (إلى الجمهور العريض).
وأما شأن خوارزم فيسبوك، فلا يعرفه أحد من خارج مجتمع فيسبوك بالتفصيل، إلا أن العوامل الأربعة التي تحدده علنية، تشكل كل من حالة التوفر، والإشارات الصادرة عن كل محتوى، وردود الفعل المتوقعة، والنتيجة النهائية المعطاة، ذلك المزيج الرياضي الذي يوزع الرسائل وينظمها تراتبياً بالنسبة إلى كل فرد. يتحدد العنصر التنبؤي جذرياً بالانتباه المتوقع من قبل كل مستخدم، كما تعطي الإشارات بدورها وزناً للمشاركات واللايكات، وغيرها من أفعال الفرد الذي يقرأ الرسالة، وينظر إليها بمثابة إشارات انشطة»، على عكس الإشارات «السلبية، المتعلقة بطبيعة المحتوى. تعطي سياسة التفاعلات ذات المعنى (Meaningful interactions) المعلنة بداية عام 2018 من قبل مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ، تعطي الأولويـة لـلـمـحـتـويـات الـتـي تـطـلـق الاستجابات وتبدأ المحادثات». وحيث إنها تعطي الأفضلية للصلات الشخصية، والتفاهمات الانفعالية، فلقد جعلت من الإعلام المتمهن محتويات من الدرجة الثانية.
أخذت المنصات الرقمية التي رفضت إطلاقاً اعتبارها بمثابة وسائل إعلام من هذه الوسائل دورين وظيفيين أخرجتهما من دورهما الأصلي. وهكذا انقلبت حراسة البوابة: إذ الكل يستطيع الدخول في المنظومة، إلا أن المستخدم لا يستطيع الوصول إلى كل الناس بالمنحى ذاته. إذ يدخل المقربون منه إلى منظومة معلوماته بسهولة أكبر. وأما فيما يتعلق بوضع جدول الأعمال، فلقد أصبح يبنى من قبل الخوارزميات، ليس من أجل المجموعة، وإنما من أجل كل مستخدم تبعاً لفاعلية أهواء الرسالة، والتي تطلق من ثم رد فعل من قبله، ما يسهم في تنشيط الشبكة. يزيد ما يقارب مليارات المستخدمين ومثيرات انفعالاتهم من تراكم الانتباه على المنصة، وبكلمة أدق، يزيد من مردودها الاقتصادي.
لا يعود الاختلال الذي يسهل الإفراط في المبالغة، والتطرف، والفضائح، والنزعة إلى تكوين الشلل، والعبثي، فقط إلى وجود اللاعبين السيئين، بل هو يعود إلى نموذج أعمال هؤلاء الفاعلين الرقميين، الذي يعزز إدماننا تجاه انفعالاتنا وينميها.
إنها مسألة بنية، وليس مجرد مسألة صدفة. فيسبوك هو مجال إعلامي قيد البناء، وهو يزعزع كل شيء في مسيرته، ولا يكمن عيبه في تركيبته، وإنما في تنظيمه. حتى لو تخلص من روبوتاته، وحساباته الزائفة ومتلاعبيه الخارجيين الحقيقيين، لا يزال يتعين عليه أن يقبل طرح ترتيب لمجاله لا يكون تابعاً كلياً لآليات الاستجابات الانفعالية.
لا يخرج مجمل النقاش العام سليماً من كل ذلك. إذ تنتهي كل من وسائل الإعلام الكلاسيكية والمنصات الاجتماعية بتكوين مجالين متباينين، لا يشتغلان بالطريقة ذاتها حيث تعجز وسائل الإعلام عن إدراك ما يجري على الشبكات: ويتعذر عليها تكوين رؤية شمولية عما يتكون من مجرد مجالات ذات طابع شخصي متناهية الصغر.
أما فيما يخص مجال المنصات الاجتماعية فهو لا يطرح على هذه الشاكلة: إذ لكل روايته الخاصة على فيسبوك، ويوتيوب، أو تويتر، وهو ما يولد حالة من سوء التفاهم: حيث لا يعثر أي مستخدم على مرآة عاكسة وأمينة لوضعه في الموضوعات التي تعالجها وسائل الإعلام. تؤدي الهوة التي تقوم بين هذين العالمين، اللذين ينتهي بهما المطاف إلى علاج موضوعات مختلفة، إلى استكمال الفارق القاتل بينهما.
إذ تهدد حلبة الأهواء المفتوحة على كل الشبكات، بتجفيف ساحة وسائل الإعلام الصحفية المتعقلة، وتهددها بقدرتها على إدراك مجمل ما يدور في المجتمع، حيث لم يعد لهذين المجالين المتباعدين التصور ذاته عن العالم.
اضافةتعليق
التعليقات