جاءتها مرفرفة تشع بريقا كخيوط الشمس الذهبية، في عنقها يتدلى غصن زيتون ندي، هللت لها وجوه بشوشة مرحبة بقدومها، وما إن جن الليل، حتى انقلب الورد أشواكا دامية، وحل شتاء صقيعي سرق دفء القلوب.
أزقة موحشة، ارتجت جدرانها بكلمات الوعد والوعيد والضرب بالحديد، وجائزة مغرية يترقبها أذلّاء الأنا، لعابهم يسيل لها تعطشا، تنتعش لها عقولهم الجاهلية بجشع، أفواه جائعة وقلوب ران عليها الحرام فأعماها، لم تراعِ في الله إلًّا ولا ذمة، تجوب ليل نهار طريدتها كضباع جائعة، تحاول اصطياد روح حمامة حلت بديارهم ببراءة قلب، وحطت بطمأنينة على أغصانٍ حسبتها أحضان وطن، تكسرت من تحتها فكسر جناحاها، تتكئ على ظلها الموجوع، تطالع بيوتا ظلالها مخادعة، وشعور الخذلان الذابح يطعن وتينها بخنجر مسموم.
قادتها قدماها تتخطى ديجورا معتما، ربما لن ينتهي. وفي تلك الأثناء رأت سيدة واقفة على باب دارها كالباسقات، يتملكها ترقّب غريب رسم شرود ملامحها بعناية على تقاسيم وجهها، اقتربت منها مسلمة، وبنبرة استحياء تطلب منها الماء، قدمته لها من دون تردد، شربت من دون أن ترتوي روحها العطشى للأمان، ظلت واقفة أمامها، طالعتها باستغراب كأنها تقول:
_"ألم تشربي الماء؟".
_"بلى".
_"لم لا تعودي حيث أهلك؟!"
لمعت في الحدقات دمعة تائهة، كررت سؤالها، لم تجبها والصمت يطبق على الكلام.
اكتنفتها الحيرة ونظراتها ترفض وقوفها وصمتها، أشاحت بوجهها عنها معلنة غضبها منها.
انتفضت روح إيمانها حطمت قيد صمتها تخبرها بما جرى، صدمتها بحقيقتها النورانية، فاضت عيناها بدموع ولائها، تحتضن غربتها وحزنها وتؤويها في بيتها كملجأ آمن حتى مطلع الفجر، لعل الصبح يأتي بالفرج، تطالع السماء شكرا على تلك النعمة، فأي سعادة أعظم مما هي فيه، وهي تحامي روح الإيمان وتلبي نداء غريب تردد صداه في الأرجاء، كانت نورا توهج من بين دياجي تلك الليلة الطويلة، نورا يفيض نصرة لقافلة شدت الرحال لأرض كرب وبلاء، ضيفها الليلة هو سر عظيم لسويعات، قبل أن تمزقَ حُجُبَ أخباره رياحُ السموم.
مع بزوغ فجرٍ شَجِيّ، يقف بعد حين شامخا مقيد اليدين فوق قصر الظلام، لم يبال بطعنات الظهر، يقف هناك يرمق الأفق بنظرات فراق، كأنه يرسل مع شفق الغروب سلاما تتبعه حسرات لأرواح زكية تركت طواف كعبتها، ملبية نداء من ضج من جور الطغاة..... هوى من شاهق، جسده الجريح، ذبحت روح الحمائم من غير ماء.
اكفهر النسيم؛ حين حمل الخبر الحزين لسيدة الضمير، فبلغت شهقتها عنان السماء، أنَّ قلبها حسرة على شهيد الوفاء، لاذت بروحها المنكسرة تلملم بقايا ذاك الإباء، لتودعه قارورة الولاء، هدموا دار ذكرياتها، تجر بعدها بالحديد لقصر لا يعرف ساكنوه معنى الحياء، تقف كنخلة شامخة، ترمى بأحجار فتعطي أطيب الثمر، الفخر تفجر بين يديها كينبوع زلال، تباغتها أنفاس الشيطان بسؤال:
_"لماذا نصرتِ عدوي؟"
_"نصرت فرعا هاشميا محمديا".
_"إنهم خوارج".
" إنهم نور الله الذي يمشي في ظلمات الأرض كأقمار وأنجم زاهرة".
تجهم وجهه وأقفر لونه وأمر بها إلى غياهب سجن الأحرار.
كانت لبوة وحيدة بين قطيع ذئاب لكنها أصبحت جيشه الوحيد، نصرته من دون خوف العقاب، لم تخش في الله لومة لائم، نصرته لتقول لنساء العصور اللاحقة "الشجاعة ونصرة الحق ليستا حكراً على الرجال".
أطاعت ربها، فأطاعها عقلها وقلبها، فطوّعت نفسها قربانا فداء للدين والضمير.
اضافةتعليق
التعليقات