كعادتي دخلت الصف ألقيت التحية على تلميذاتي اللواتي أعدهن كبناتي حملت الكتاب وأخذت اكتب على السبورة الدرس حتى انتهيت ثم بدأت بتوجيه التلميذات للقراءة والتلقين واحدة تلو الأخرى إلى ان وصلت إلى تلك الطفلة التي كانت ترتعد خوفا، ترجلت من مكانها بخطى ثقيلة وقد كانت ملامح الاعياء قد بانت على وجهها الشاحب واثر من الكدمات على كفيها الصغيرين, رمقتها بنظرة عطف وشفقة كنت اسأل نفسي ترى من أي شيء اصابتها هذه الكدمات؟
العنف ضد الاطفال
كانت هذه بداية حديث غفران عبد الرزاق/ معلمة حينما التقيناها لتحدثنا عن العنف ضد الاطفال في قصة لاحدى تلميذاتها التي تعرضت للعنف من قبل ذويها فقالت: "منذُ بداية العام الدراسي وانا الاحظ على تلك الطفلة اثر الكدمات بين الحين والآخر مرة غامقة وأخرى خفيفة, حاولت تفسير بإنها طفلة ذات سبع سنين وكثيرة الحركة, أو إن إخوتها يلعبون معها بعنف, كنت أحاول تفسير الكدمات بأنها شيء وقتي ناتج من فرط حركة, وعند استدعاء والدتها بسبب تدني مستوى التلميذة العلمي أخبرتني الأم وبكل وقاحة أنها تضرب الطفلة كثيرا بحجة تلقينها الدرس, لأنها لا تتجاوب معها بالتدريس, حاولت إخبارها ان الضرب لا يعطي أي نتيجة وإنما يخلق في داخل الطفل أزمة نفسية قد تتطور للاسوء، وفي أثناء منتصف العام الدراسي ازدادت حالة التلميذة النفسية سوءا, وتدنى مستواها العلمي وكنت إذ تكلمت معها تحاول بصورة عفوية لف يديها حول رأسها وكأنها تحمي رأسها من ضربة قادمة, أدهشني تصرفها وقلت لها (ماما أني ما أريد اضربج أنت ليش تخافين مني) وأيضا استدعيت الوالدة وكان جوابها إنها تضربه ضربا مبرحا وخاطبت الأم بلهجة شديدة إذا عاودت هذا الفعل سيكون ردي قاسيا".
واضافت قائلة: "وفي ذات صباح وقفت التلميذة أمام السبورة لتقرأ الدرس, ويا هول ما رأيت وإذا بجسد الطفلة الضعيف قد شوه بآثار لحروق قد ملئت جسدها من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين وعند سؤالي لها قالت (أمي جوتني بالخاشوكة لان ما قارية) اشتطت غضبا وأسرعت للإدارة وقامت المديرة بتحرير ورقة حضور إلزامي للوالد وجاءت الجدة معللة سبب الاعتداء بأن والدتها مجنونة, رفضت تعليلها وأخبرتهم إذا لم يحضر الأب أو احد أفراد العائلة سأستدعي الشرطة وأزج الأم بالسجن, وبالفعل جاء الزوج وكان شابا صغيرا بالعشرين من العمر وبدى غير راضٍ عن تصرفات زوجته, وقام بتأنيبها على ما فعلته والسبب يعود لكثرة غيابه عن البيت طالبا للرزق, ووعدني خير وتم طي القصة بسلام وبالفعل عادت الأمور إلى نصابها".
وواصلت حديثها: "وبعد مرور فترة تعرضت للتهديد من جهة مجهولة بالسجن أو الاعتداء بحجة إن للبيوت أسرار وليس من حقي التدخل ومن حق أهل التلميذة إقامة دعوى قضائية لأنني انتهكت الحرية الخاصة لأسرة التلميذة، ومن حقهم أن يلقنوا الطفلة التربية اللائقة وان كانت هذه التربية لها آثار جسدية مؤلمة".
تقلب الموازين
في يومنا هذا أصبح العنف الأسري ظاهرة طبيعية اذ اصبح موضوع لا نستطيع أن نناقشه في مجتمع أصبح يمتُ للجاهلية بصلة أكثر من الإسلام، وكثيرا ما نشاهد ضرب الزوجة الأولى للزوجة الثانية أو ضرب أهل الزوج لزوجة الابن أو ظلمها، أو حتى ضرب الابن لامه لان تطاول يد الذكر على الأنثى يعد من الرجولة وان الرحمة والتسامح بقلب الرجل يعتبر من ضعف الشخصية له، أما المرأة فتعتبر وعاء الرحمة وعاء العطف رغم قساوة المجتمع تحاول لملمة أشلائها المبعثرة لتبني أولادها وتصون بيتها بالرضا والطاعة, ومن المؤسف أن تنقلب الموازين وتتغير المفاهيم، فيحل العنف والقسوة داخل بيوت المسلمين بدلاً عن الرحمة والمودة والتآلف والتعاطف، فقد اندلعت مؤخرا ظاهرة العنف الأسري والتي تعد من اخطر مشكلات مجتمعاتنا المعاصرة اذ ان المرأة او الطفل الذان يتعرضان لأي عنف من أي نوع لا يلجئون إلى القانون بل يتسترون على الفاعل حتى يستمر بممارسة عنفه وبشكل أبشع.
(بشرى حياة) سلطت الضوء على هذه الظاهرة لتتعرف إلى ما تعانية هذه الفئة..
العنف الأخوي
من جانب اخر حدثتنا (ز) : "بعد طلاقي عدت لأعيش مع أخي وزوجته التي كان يستمع إلى حديثها كما لو كان مغيب, تفاقمت المشاكل بيننا بسبب عملي فقد كان يطالبني بان أعطيه كل راتبي الشهري, وحينما ارفض يبرحني ضربا, وبعد تحريض من زوجته قام بمنعي من الخروج من البيت حتى امتثل لرغبته وهو أن أتنازل عن قطعة ارض لي قد ورثتها عن أبي, وبعد رفضي القاطع عمد الى سجني في الحجرة وإعطائي وجبة طعام واحدة, وكلما ارفض طلبه يعاود في ضربي, مرت ثلاثة شهور وأنا على تلك الحالة, حتى زارنا عمي في ذلك المساء الذي حررني من سجني بعدما احضر معه رجال الأمن, وذلك لان جارتنا كانت تسمع صراخي المتعالي طيلة تلك المدة لكنها كانت تخشى التدخل وحينما تسأل زوجة أخي عني تخبرها إني مجنونة, وحينما تحررت من حقيقة الأمر, لجأت إلى زوجها الذي سعى جاهدا بالبحث عن بيت عمي ليبلغه بأمري".
وتابعت قائلة: "إن ظاهرة العنف تنوعت في السنوات المتقدمة فقد كنت اسمع في السابق إن أكثر عنف يمارس هو ضد الزوجة أما الآن فقد أصبح يشمل الكل وأما يكون لمصالح شخصية أو كره دفين, والغريب إننا لا نلجأ للقانون بهكذا أمور إلا ما ندر".
ختمت حديثها: "لقد عدت لمواصلة حياتي, وقد ساعدني عمي لأتخطى تلك المرحلة التي مررت بها حتى انه عمد الى كتابة اقرار في مركز الشرطة لأخي بعدم التعرض لي بأي شكل, وانتقلت للعيش في بيت عمي".
رؤية قانونية
فيما شاركتنا المحامية كوثر الناصر قائلة: "بدأت وللأسف تظهر لنا بعض من تشوهاتنا الاجتماعية والأسرية على السطح في الآونة الأخيرة والمتمثلة في العنف الأسري الموجه ضد الأطفال, حيث لا يعرف الكثير حتى اقرب الأقرباء عن الآباء الذين نزعت الرحمة والشفقة من قلوبهم وزرعت عنفا وجبروت الكثير من الآباء الذين قد التقيت بهم في قضايا العنف, يبررون أفعالهم تلك تحت ذريعة إنهم يربون أبنائهم وان الضرب المبرح هو الوسيلة الوحيدة بأن لا يكرر الطفل أفعاله السيئة".
وأضافت الناصر: "إن الكثير من الأهل والأقرباء يتجاهلون القانون ولا يسعون إلى اللجوء إليه في مثل هكذا حالات وذلك لتمسكهم بالأعراف والتقاليد بأن تحل مشاكلهم بينهم وان لا يلجئوا إلى حكم القضاء والقانون, البعض يتخوف من اللجوء خوفا إن يتعرض إلى مشاكل اعتداء خارجا بعد الحكم مثلا, والبعض يستهين بها كون الإجراءات تكون مطولة, أتمنى أن لا تستشري ظاهرة العنف وتتسع في السنوات القادمة وان تعمل الجهات المعنية بالحد منها".
رؤية اجتماعية
وتشير الباحثة الاجتماعية ثورة الأموي بقولها: "إن العنف الأسري هو أي حالة من حالات الغضب أو الانفعال ضد أو اتجاه أي فرد من أفراد الأسرة فقد يكون لفظي أو جسدي ظاهري أو مخفي من الكبير ضد الصغير أو العكس".
وأضافت: "إن اغلب العوائل العربية والعراقية بالخصوص الملتزمين منهم بالعادات والتقاليد وبعض الموروثات الاجتماعية غير الصحيحة حيث يكون هنالك سلطة للذكور على الإناث الأب على الأم والابن على الأخت ولان الابن ينشأ في هذه الأسرة فيرى الوالد ويتعلم فعندما يرى والده يمارس العنف اللفظي او الضرب, سيأخذ هو نفس النهج أو الطريقة ليثبت رجولته كما يفعل الوالد كذلك نشاهد حالات تسلط الابن الكبير على الصغار وهذا أيضا ناتج عن التربية غير الصحيحة وفي الغالب يكونوا الإناث هم الضحايا".
وتابعت: "إن هذه الحالات تولد ردود أفعال كثيرة منها تنشأ للولد احتمال شخصيتين فإذا كان راضي عن سلوك والده سيكون متسلط ويمارس العنف مع والدته وإخوته وفي المستقبل زوجته, وإذا كان غير راض عن تصرف والده سينشأ ضعيف الشخصية لأنه عنف من قبل الأب وألام في البيت أو الأخوة الكبار, كذلك بالنسبة للبنت أما أن تكون صاحبة شخصية ذكورية سلطوية او خائفة غير واثقة من نفسها وبكل الأحوال لن تستطيع أن تكون أسرة ناجحة".
وتواصل الاموي قائلة: "وهنالك عنف بين الأبناء أنفسهم, الكبير متسلط بحكم التربية, والصغير المدلل وأيضا بحكم التربية, فيكون الأوسط هو الضحية, لكن أي حالة عنف في الأسرة ستنعكس سلبا على وضع الأسرة وستكون أسرة مفككة غير منسجمة وهذا بدوره يؤثر على بناء شخصية أفراد المجتمع, وستكون النتيجة سلبية على بناء قدرات وقابليات الفرد داخل الأسرة وداخل المجتمع".
ختمت حديثها معللة بأن: "حالة العنف داخل الأسرة تترك ظلالها على المدرسة والشارع, لأنه سيكون عنيف مع زملائه في المدرسة, أو الشارع, وسيحاول الهروب من البيت حتى يجد نفسه ويتخلص من الضغوط عليه داخل البيت, ومن المحتمل أن يسلك سلوكا غير صحيح, والكثير من حالات العنف أدت إلى الانتحار فالعنف بكل أنواعه اللفظي والجسدي يولد إعاقات أما فكرية أو جسدية وهذه تؤثر على شخصية الفرد".
رؤية شرعية
وشاركنا الشيخ نزار التميمي مستهلا حديثه: لقد نص القرآن الكريم في الكثير من الآيات الكريمة التي تصور عواطف الأبوين نحو الأولاد, وتكشف عن صدق مشاعرهما ومحبة قلبيهما اتجاه أفلاذ الأكباد تلك التي أودعها الله في قلوبهم من الرحمة والرأفة والعطف عليهم وهو شعور كريم له في تربية الأولاد وتكوينهم أفضل النتائج وأعظم الآثار والقلب الذي يتجرد من خلق الرحمة يتصف صاحبه بالفظاظة والغلظة وهذه صفات قبيحة تنتج عنها انحراف الأولاد وتخبطهم في مستنقعات الجهل.
وأضاف التميمي: إن العنف الأسري هو من أخطر مشكلات مجتمعنا العربي المعاصر والمأساة تتمركز في أن العنف ضد الطفل يكون في الظلام حيث لا يعرف الكثير حتى أقرب الأقرباء عن الآباء الذين نزعت الرحمة من قلوبهم وزرعت حقدا وكرها للأطفال.
إن للطفل في الشريعة الإسلامية حقوقا واضحة معروفة أتى بها الشرع المطهر لحفظ وحماية وصيانة كرامته حتى ينمو نفسيا وجسديا واجتماعيا بشكل طبيعي, كما تضمنت المواثيق والمعاهدات الدولية عدة حقوق للطفل ومن ضمنها احترام آدميته والحفاظ عليه وحمايته, وبالتالي هذه الحماية هي لمصلحة الأسرة نفسها.
كما أنها لمصلحة المجتمع على وجه العموم كون إن المجتمع يمثل مجموعة هذه الأفراد من هذه الأسرة أو تلك,فكيف ما تكون الأسرة أو الفرد يكون المجتمع.
اضافةتعليق
التعليقات