حلمت البشرية منذ الأزل بهدفها المنشود وهو حق الإنسان في الحياة والعيش بسعادة ليكون العدل والمساواة والحرية الضمان لبقاء هذا الحق، ولطالما برزت دعوات الإصلاح حتى قبل الإسلام مما يدل على أن المطلب هو فطري بطبعه وقد جاءت الأديان بشرائعها لتحقيق هذا الهدف: "وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"، وقد تبنت بعض التشريعات الوضعية هذا الهدف أيضاً مداً وجزراً، فتضمنت تشريعات حمورابي بعض الأحكام الموافقة لحقوق الإنسان. كما أن الأغريق منحوا المجتمع سلطة التشريع وسمّوها بالديمقراطية الإغريقية، واستمدّت الثورة الفرنسية من جان جاك روسو أفكاره عن حقوق الفرد لتؤثر تأثيراً كبيراً في إعداد وثيقة عن: "حقوق الإنسان" التي تضمنها دستور عام 1719م، أكّدت على الحرية والمساواة وسيادة الشعب.
إذا كانت الحضارة اليونانية تفخر بشريعة سولون، والتاريخ الإنجليزي يفخر بوثيقة (الماجنا كارتا)، والثورة الفرنسية تفخر بين تاريخ الثورات بإعلان حقوق الإنسان، فإن الحضارة الإسلامية الزاهرة قد قدّمت للأجيال المتعاقبة منذ أربعة عشر قرناً هذا العهد العلوي الخالد على الدهر بأعدل المبادئ المقرّرة في فقه السياسة والحكم، فليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان التي نشرتها هيئة الأمم المتحدة إلا وتجد له مثيلاً في دستور ابن أبي طالب عليه السلام ثم تجد في دستوره ما يعلو ويزيد.
جسّد الإمام علي عليه السلام عدالته من خلال التشريعات الإسلامية التي حولها إلى تطبيق في الواقع على رعيته حتى بقيت مقولته الفريدة والتي لم تصدر عن غيره، تثير استغراب وتعجب الكثيرين من المؤرخين لتاريخ الأمم والتي قال فيها: "لقد أصبحت الأمم تشكو ظلم رعاتها وأصبحت أشكو ظلم رعيتي، ولقد كنت بالأمس أميراً واليوم مأموراً، وكنت ناهياً واليوم منهياً"، وقد وضع الإمام علي عليه السلام معالم الحق عند الراعي الحاكم من وحي ما افترضه الله على عباده لتصلح بذلك البلاد والعباد، من هذه الديباجة الرائعة التي تصلح لأن تكون رؤية الإسلام للحقوق الإنسانية صبّها علي بن أبي طالب عليه السلام في هذا القالب الأدبي المفعم بأدبيات الحاكم الذي يحرص على إقامة الحق: "وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعيّة وحق الرعيّة على الوالي فريضة فرضها الله سبحانه لكلٍّ على كلّ فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعيّة إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعيّة. فإذا أدّت الرعيّة إلى الوالي حقّه، وأدى الوالي إليها حقّها، عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء".
إذن يرى الإمام عليه السلام أن الحقوق المتبادلة بين الراعي والرعيّة هي ما يُقوِّم أركان الدولة ويصحّح أيَّ مسار قد ينحرف بالأمة، وإذا تم تجاهل هذه الحقوق فستنهار أركان الدولة لقوله عليه السلام: "وإذا غلبت الرعيّة واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس".
ولم تفتأ البشرية تبحث عن حقوق الإنسان في أروقة الهيئات والثورات التي طالبت بالحقوق في العصر الحديث خاصّة بعد الدمار الذي لحق بالعالم من خلال الحربين العالميتين من خلال عصبة الأمم المتحدة عام 1920 التي كانت من أهدافها: المحافظة على الأمن والسلم الدوليين وما أقرب ذلك من مواثيق كميثاق باريس في 1928 الذي يطالب بالتسويات السلميّة بين الدول.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية أنشئت هيئة الأمم المتحدة سنة 1945 في مؤتمر: "سان فرنسيسكو" وحينها شكّلت لجنة لتعزيز حقوق الإنسان، وورد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تضمّن في المقدمة ثلاثين مادّة، وجاء في مقدمته: "لما كان الاعتراف بكرامة الإنسان المتأصلة في كيان أعضاء الأسرة البشرية جميعاً وبحقوقهم المتساوية التي لا انتزاع لها عنهم إنما هو على أساس العدل والسلام في العالم، ولما كان تجاهل حقوق الإنسان واحتقارها قد أفضيا إلى أعمال همجية استثارت الضمير الإنساني وكان انبثاق عالم يتمتع المرء فيه بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الخوف والفاقة هي غاية ما يصبو إليه الناس، ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لئلا يضطر المرء في النهاية إلى التمرد على الاستبداد والظلم.
اضافةتعليق
التعليقات