اقتضت لعبة الديمومة اقتران العصور بقضايا مستجدة، تعصف بالأذهان وتثير النقاشات الموبوءة مستهلكةً رواد الشارع الفكري من بحث وتبرير وجدال قد يودي بالقضية إلى التصعيد الجمعي، أو تحال إلى الرف الصامت حتى النسيان.
تعد سيكولوجية الشباب معضلة القرن كما تواردها المحللون، لما تحمله من تغيرات دورية وجذرية على كل الأصعدة المجتمعية والحياتية، مما أدى إلى تصاعد دوي الإعلام الذي يتناول موضوع هيكلة الشباب وكيفية تشكيله بالهيئة المطلوبة، بصورة مفرطة، فكل يسعى بأساليبه المبتكرة إلى تطبيع أفكار مبرمجة في عقول شبابه لتحقيق غاية موحدة على وجه العموم، ألا وهي تجييش عقول الشباب لإحالة الغاية الفردية إلى إرادة جماعية تحقق المراد، لأنهم الفئة الوحيدة القادرة على التَغيّر والتغيير.
فأدى نقع الإعلام المضلل إلى حجب الركن الديني عند الشباب وتصييّره ركناً استحبابياً يتم اللجوء إليه بدواعي الانتماء الشكلي وإلا فلا، وهي نقيض ما تناقله المؤرخون عن استحثاث النبي الأكرم (ص) في بداية النهضة الإسلامية لنفوس الشباب، برسالة استثمرت عنفوانهم وأحيت الجانب الفكري لديهم ناهيك عن العاطفة النقية، فخلدت شباباً يحملون إسلامهم بين أعينهم واثقين جازمين بأنه المنهج الأسمى إلى السعادة الأبدية.
يصنف المسلك العاطفي لدى فئة الشباب، الفيصل الذي قد يرجح كفة الإحساس والسلوك أحياناً على حساب الفكرة والمعتقد، فمما نلمحه في مجتمعنا بشكل خاص عند حلول شهر المحرم، هو التفاعل الشبابي الواضح والملموس مع قضية الثورة الحسينية من كل حدب وصوب، والذي يتجلى بالخدمة والعزاء ونصب المواكب ناهيك عن رفع شعار الحسين (ع) مع كل صرخة ظلم أو ثورة جماهيرية واضحة كانت أو مبهمة، حتى مع اختلاف سلوكياتهم اليومية وجهلهم بثوابت صاحب هذه القضية العظيمة، فيجول الاستفهام في خواطرنا؛ أين يكمن الخلل؟ هل أدرك الشباب القضية الحسينية بصورة مهمشة؟ أم ضلل الإعلام دعائمها؟
تشكل القضية الحسينية ركيزة أساسية تستند عليها كل المناهج الإصلاحية بصورة واضحة وممنهجة، والتي انطلقت من شعار الحسين (ع): "إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...." اعتمدت في امتدادها وقيامها على ثلاثة جوانب أساسية تكمل إحداها الأخرى، وقد تنحرف السبل بأفول جزء منها أو تغييبه عن وعي المجتمع بشكل عام والشباب بشكل خاص، واستوفت:
_ الجانب الثوري:
يعد الجانب الثوري في قضية الإمام الحسين (ع) بإجماع أغلب المحللين والمفكرين، هو الجانب الأكثر تأثيراً في انتماء الشباب لهذه القضية، والذي يعزف على وتر التمرّد والهَيَجَان نغمة الفتوّة الراسخة التي تؤجج روح الحماس وتنذر بوجودهم.
كل الثورات التي خلّدت نتائج مستقبلية كانت تستتر في مكنونها على أرضية خصبة أينعت فيها ثمار هذه الثورة، وعلى عوامل ساعدت وهيأت نهوضها واستحثاثها، وبلا شك يبنى هذين الركنين بيد قائد واعٍ يسيّر حملته إلى بر النصر والخلود.
فكيف بثورة حددت نهج البشرية بأكملها ورسمت الطريق لكل ثورة بعدها اختارت أن تقوم باسمها، هل يعقل أن تكون ثورة (رد فعل) لسلب منصب في زمن محدد؟ أم أنها ثورة ذات منهج مسبق؟
كل رحلة إصلاحية تحتاج إلى تخطيط وتأهيل يتحدد بنوعية العوامل المسببة للفساد، ففي جانب الثورة الحسينية لا يمكن إنكار التخطيط الإلهي الذي هيأ هذه الثورة ورسخها كحدث حتمي تناقله كل الأنبياء وصولاّ إلى النبي الأكرم (ص)عندما هبط عليه جبرائيل (ع) وقال: "يا محمد إنّ الله يقرأ عليك السلام ويبّشرك بمولود يولد من فاطمة (ع) تقتله أمتك من بعدك....."(1)، ولكن بيت الرسالة قد هيئوا السبل وصولاً ليوم كربلاء، فلقد حمل الرسول (ص) على عاتقه بيان مقام الحسنين من حيث المنهج الرسالي والعصمة الراسخة في أحاديث كثيرة أبرزها "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"(2) ليكون حجة على البرية.
أما أمير المؤمنين (ع) فعدله الصارم وسيفه البتّار وصبره الشديد على ظلم البغاة ومن تعنون باسم صحبة النبي (ص) قد أردى قلوب الطغاة ربيبة للحقد والغيظ، فأدى بهم إلى محاربة سبط النبي (ص) واعترافهم ببغضهم المستعر، عند قولهم:
"بل نقاتلك بغضاً منا لأبيك! وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين!" (3) كناية عن حنقهم ومقتهم لشخص علي بن أبي طالب (ع) الذي أحله النبي الأكرم (ص) محل هارون من موسى وفضله على سائر المِلل اختباراً لدينهم، فصرع الكفر بكل أشكاله ولم يبالي بنسبه القرشي، وصب زيت بغضهم على فتيل الملحمة الهاشمية.
وأخيراً أغلقت حلقة الإعداد بتقيّة الإمام الحسن المجتبى (ع) التي غربلت الانتماء العقدي ورسمت مسيرة استثنائية رفع بها الإمام (ع) الستار عن النوايا الدسيسة لبني أمية ، فآل على نفسه إلا أن يمتص سم الأفعى ليحمي شيعتهم من فناء محتّم، حيث وضح الإمام الحسن (ع) في حديث مطول لأبي سعيد عندما سأله عن علّة مصالحته لمعاوية، فقال: "...... ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل."(4).
_ الجانب الفكري:
ارتأى نهج العصمة أن يؤجج المشروع الفكري في خير الأمم ويخاطب الوعي والإدراك عند البشر ليصل بهم إلى قمة المعرفة بخطى المسألة.
فمدرسة كربلاء حملت رسالات فكرية عظيمة وعميقة تمثلت بداية بشخوص الواقعة الذين جسدوا كل الفئات العمرية بدءاً من أصغر فرد وهو عبد الله الرضيع (ع) ووصولاَ إلى حبيب بن مظاهر الأسدي شيخ الأنصار، فيمكن أن نلمس فقط من هذين العنصرين أن انطلاق رحلة الغرس السليم والعمل الدؤوب في كل عبد الله يمكن أن تصل إلى وجهة كوجهة حبيب مارة في طريقها بتفاني القاسم والأكبر وثباتهم، بنهج سكينة وصبر الرباب، بمواساة أبي الفضل العباس (ع) وسياسة العقيلة الهاشمية، ويمكن أن نستلهم ألف ألف موقف وصورة من يوم عاشورائي بأربع وعشرين ساعة، فلكل جيل قدوة احتضنته رمال الطفوف.
معرفة الله واليقين هي زاد كل العاملين في الجانب الرسالي، فالحسين (ع) قام طلباً لاستدامة عقيدة التوحيد ودعا إليها قولاً، بعشرات الخطب الهاتفة بالحق قبل خروجه من مكة والتي ابتدأها: ".... من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله"(5)، فمع ولاية الحسين (ع) على نفوس البرية بحكم إمامته إلا أنه أعطاهم حرية اختيار الحق من الباطل وفصل السبل بعقولهم، وهنا اختصر نظام الجبر والتفويض برمّته.
وبنى الدعوة بشخصه وموقفه المكتمل الذي كشف نقص العدو وجهله، فأكرم عند وفرة الماء وقوبل عند شحّته ب: "يا بن أبي تراب لو كان وجه الأرض كلّه ماءً، وهو تحت أيدينا، لما سقيناكم منه قطرةً.." صورة أعطى فيها للإنسانية حقها وبيّن أن موردها منهم وإليهم لأنهم وجه الله في أرضه.
فأرشيف كربلاء وثق الفكرة الأعمق وهي أن معرفة إمام الزمان وإدراكه يقلب كل الموازين ويحيل النفس من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين، كما تجسدت في موقف الحر بن يزيد الرياحي، حيث أن بصيرة الحر قد أحدثت نقلة نوعية في مقامه وعاقبته.
فالمعرفة تؤدي إلى التفاني من أجل كلمة لا إله إلا الله، وهنا يصوّر العارف عمق الولاء للقضية: "يا أبتَي، ألَسنا على الحق....... إذاً لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموتُ علينا".
لن يوفي الكاتب حق فكر الطف ولكن يمكن أن يختصر أن لكل خطوة حسينية ألف نهج وحجة.
_ الجانب العاطفي:
تكاد أن تكون العاطفة قطب الرحا وبوابة الفكر والثورة، فلا يمكن أن نجرد كربلاء من عواطفها فالحب والمعرفة اتجاهان لطريق واحد.
جسّد الإمام الحسين (ع) العاطفة الخام في علاقته مع بارئه، والتي بذل في سبيل توثيقها في صدر البرية، نفسه وماله وصحبته وعياله ومازال يقول "خذ حتى ترضى" حتى استقر الأجل.
فعاطفة المعصوم حجة على رعيته، فطلب الماء واستسقاء الأعداء وناعيته التي استنتصر فيها من يريد النجاة والثبات، حاشى أن تكون بقصد التذلل والهوان كما يشيعه البعض وإنما هي موقف فصلي أعطاهم الإمام (ع) فيه فرصة استحضار صفاتهم الإنسانية حتى وإن كانت تخالف غاياتهم، ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا مسيرين بأهوائهم إلى جهنم.
فكما قال الحسين (ع): "أنا قتيل العَبرة"، يثور شيعته كل عام بعَبرته آخذين على أنفسهم عهد العزاء الذي يحمل في مكنونه رسالة قائد نصر الدم على السيف.
فعلى مر السنين كانت الشعائر الحسينية التي يمارسها محبيه وناصريه والمتأثرين بقضيته، راية شاهقة تنذر الغافل بعظمة الحسين وسيرته، وهي البوابة التي يهوي عندها قلب كل من نادى يا حسين، فلقد أوصى الأئمة الأطهار بوجوب استمرار الدموع والرثاء لصاحب الفاجعة والتنويه بأن سبط النبي الداعي إلى قصم الظلم قد قُتل مظلوماً، فالبكاء هي شعيرة الأنبياء منذ الأزل، كبكاء نبي الله يعقوب على ولده يوسف مع علمه بأنه حي يرزق، وأكد رسول الله (ص) بقوله: "وصلّى الله على الباكين على الحسين رحمة وشفقة "(6) على أثر البكاء في الإعلان عن ديمومة القضية كما قال الشيخ عبد الكريم الحائري: "الشعائر الحسينية أمر مستحب ولكنها تحمي ألف ألف واجب".
فالبكاء منهج وهو من أساسيات رحلة التصديق: وهو الصدق المقترن بالعمل، كما ورد في الآية الشريفة "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" سورة المائدة (83). فالبكاء الركن الراسخ في بناء القضية الحسينية وتأتي بقية الشعائر مكملة لهذا البناء القويم.
فمما يمكن استنتاجه مما ذكر آنفاً، أن جوهر وفكر الفقه الحسيني عند الشباب لا يمكن أن يكتمل ما لم تكتمل أسس هذه الجوانب الثلاث في الوعي الباطني لديهم، فإن تغييب أحد الجوانب أو محاولة تحويره بما يتناسب والغاية المستترة قد يشكل خطرا كبيرا على المجتمع، ويقع العبء الأثقل في هذه التنشئة على عاتق خطباء المنبر الحسيني، فالشباب هم مشاريع الخطباء ورجال الدين، وأمة واعية هي دلالة على رقي الشريحة الدينية والمنبرية فيها التي تدرك الأهم من المهم، ولا يمكن تجاهل السعي الفردي لكل شاب فمسيرة التغيير تبدأ بخطوة وغاية الخلق هي الظفر بالحكمة البالغة والاجتهاد في مرضاة الله، فقد قال رسول الله (ص): "إن لله تعالى ملكا ينزل في كل ليلة فينادي: يا أبناء العشرين جدوا واجتهدوا، ويا أبناء الثلاثين لا تغرنكم الحياة الدنيا، ويا أبناء الأربعين ماذا أعددتم للقاء ربكم؟......"(7)
فمعرفة الحسين (ع) وخوض غمار الموسوعة الكربلائية، تُخرّج جيلاً صلدا واعياً واثق الخطى لمعرفة إمام زمانه المغيّب ونصرته عند استنهاضه يوم الفرج.
المصادر:
١ بحار الأنوار، ٢٣٤:٤٤
٢ علل الشرائع، ٢١١:١
٣ معالي السبطين ١٢،٢
٤ علل الشرائع ج١
٥ أعيان الشيعة ٥٩٣:١
٦ بحار الأنوار ٣٠٤:٤٤
٧ مستدرك الوسائل ١٥٧:١٢
اضافةتعليق
التعليقات