الخوف من التغيير وليد الفطرة، ينمو من مخاوفنا الداخلية التي لا تحمل مبرراً ذا شرعية وواقعية، ويترعرع في كنف الهواجس التي تراود صفاء أفكارنا، لتصبح الأخيرة حبيسة قضبان تعلو بمرور السنين لتغدو أقسى وأصعب، هذه هي طبيعة الحال ورغم ذلك تجدنا طوع التقليد، وبمعنى أدق (التقليد المبتذل) الذي ظهر مؤخراً بحكم الحداثة كتغيير اللهجة وإدخال مفردات أجنبية الى الجمل، وارتداء الأقراط بهيئة أقرب ما تكون للغجر، وقصات الشعر الغريبة والألوان الفاقعة التي لم نعهدها سابقاً، وحتى المحجبات ولفات الحجاب الجديدة التي تُظهر الأذن أو الرقبة، والكثير من الأمور المستحدثة التي طرأت مؤخراً على مجتمعاتنا.
بالنتيجة غلبت علينا الصفة الاستهلاكية لا الإنتاجية، والتقليدية للمظاهر الخارجية لا الاعتداد بالهوية الأصيلة، والضمير (نا) هنا يرمز الى مجتمعاتنا العربية عموماً ومجتمعنا العراقي على وجه الخصوص، هذه الخصوصية التي تمخضت من رحم الماضي وطبيعة أرضه ومناخه الديني السائد بحكم وجود المراقد المقدسة.
ففي العراق، قديماً، كنا نعتز بهذه الهوية التي ظهرت جليةً في عاداتنا الاجتماعية وتلاحمنا الاسري بالإضافة الى أسلوب اللبس والمظهر العام لكل فرد فينا، خاصة وأن بلادنا عاشت ازدهاراً كبيراً في خمسينيات القرن الماضي مما جعلها تندرج الأولى في قائمة الدول العربية من حيث التحضر والرقي، لذا فمن غير الممكن أن نعزو ما نراه اليوم من مظاهر أقرب ما تكون الى التهريج الى التحضر والانفتاح على الآخر.
لقد بحثت عن السبب الحقيقي وراء كوننا أصبحنا مجرد نسخاً عن غيرنا، فوجدتُ أن الآراء متوافقة لكنها تفتقد الى الاقناع، مع أنها حملت عنوان واحد وهو (غياب الهوية)، فالنقاد والمحللون النفسيون عزوا السبب الى فقدان القيم وهوية الانتماء للوطن، الذي يرجع بدوره الى تنحي مؤسساتنا التربوية عن دورها في غرس ثقافة الدين والانتماء ونعمة الوجود في أرض يباب كالتي خلقنا فيها، والدليل على ذلك أن أول شعور يستحوذ على الفرد العربي هو الحنق تجاه مجتمعه ونفوره من كل ما حوله، حتى يخيل الينا أن هذه المشاعر النافرة ولدت مع ولادة آدم (آدم العربي)، ولا زالت تتناسل بشكل عفوي دون أدنى تخطيط وتصميم منا، حتى أصبح لا مفر من اثنين لكل فرد عراقي وهما (التقليد والهجرة).
بالتأكيد إن الموت والدمار اللذين عشقا بلدنا حد الجنون هما من دفع شبابنا إلى مشاعر الكره تلك، ولكني أضيف إلى الأسباب المذكورة آنفاً سبب آخر، وهو عدم احترمنا لذواتنا وغياب ثقتنا بأنفسنا، فنحن لم نعد نؤمن بقدراتنا إيماناً مطلق وبأننا اجرام صغيرة انطوى فينا هذا العالم الكبير.
ننظر الى إنجازات الغير بإعجاب مفرط لدرجة الشعور بالعجز، ونتناسى أن أشهر بروفسورات وعلماء القرن الماضي كانوا عراقيين وبشهادة الغرب.
نعم تراجعنا وانزوت أحلامنا خلف الحروب وتوالي النكبات، ولكن ما الضير في أن نبدأ من جديد ونعيد بناء أنفسنا، فهناك دول كالسويد كانت قبل مئتي أو ثلاثة مائة عام تسوق النساء في سوق العبيد، وها هي تقف الآن في صف أكثر الدول رصانة من حيث النظم الاجتماعية الحديثة، وأميركا وحروف اسمها التي تدوي في أذهاننا، لم تسن قانون الغاء عبودية الرق إلا عام 1862م، ليسوا أفضل منا في شيء، إلا في صنع أنفسهم (في صنع الانسان)، لم يرضوا أن يكونوا نسخاً أبداً، لذا بحثوا عن ذواتهم وأقروا بشرعية وجودهم حتى أقنعوا العالم أجمع.
كيف إذا فقدنا ثقتنا بأنفسنا ونحن من هدينا البشرية؟!.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، لا أعرف لمَّ العقيدة، رغم أنها (عقيدة) تكون مهزوزة مهزومة عند أي مواجهة لنا مع الأديان الأخرى، فلله الحمد... شبابنا يتأثرون ويُستدرجون بسرعة البرق الى الدين الآخر من خلال المنظمات التبشيرية المبطنة التي تستضيف الشباب وفقط ( الشباب) من الاعلاميين وغيرهم من ذوي الشهادات في رحلات واستضافات مجهولة السبب، سوى أنها تحمل عنوان (الانفتاح وتقبل الآخر وحرية الأفكار والأديان) ما أجمل الكلام المنمق الذي يستهدف هؤلاء، وهم للأسف (طين اصطناعي)، فمن أول رحلة يقعون في المصيدة ليعودوا متنمرين بشكل واضح على مجتمعهم ودينهم.
السؤال الذي يفرض نفسه/ لماذا نغير أنفسنا لنكون نسخة عن الآخر، لمَّ لا نرجع إلى أصلنا الفريد وديننا السمح، كيف فقدنا قدرتنا وعزمنا على التغير والتقدم لنكون نحن كما نحن، أصلاً لا نسخاً، كيف أهملنا كل تأريخنا وأصبحنا طين اصطناعي يشكله الآخرون بحسب أهواءهم؟، لا أريد التشدق بالعناوين البراقة التي تملأ عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية مترجمة أوزار الاعلام الغربي الذي يحاول طمس الهوية الدينية مع أنني اتفق معه تماماً، فلمَّ لا؟؟
لمَّ لا نكون نحن من نشغل عقولهم ونشكل خطراً كبيراً على امتدادهم في المنطقة، لذلك يحاولون تغييبنا من خلال إلهاء الفرد العراقي والعربي وإغراقه بالتفاهات.
الحديث معقد جداً في هذه المسائل ولا يُسبر غوره، كونه يخبئ تشعبات كثيرة مثيرة للجدل، لذا سأحاول التكلم ببساطة محضة، أيها الفرد العراقي، لا تكن طيناً اصطناعياً، احترم ذاتك ولا تنزع جلدك ولهجتك وكينونتك بمجرد عبورك حدود وطنك الحقيقية أو الافتراضية لتغدو مواطن أجنبي اللهجة والمظهر، ولا تنس قوله تعالى (ولقد اصطنعتك لنفسي)، لذا كن بمستوى تلك الصناعة القدسية.
اضافةتعليق
التعليقات