ربما كانت تلك المرة الأولى التي استخدمت فيها المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ألفاظًا غير حاسمة، وربما مبتورة غير محددة المعالم، مثل «النية» في التخلي عن قيادة حزبها، أو «احتمالية» استكمال فترة ولاية مستشاريتها، أو «مشاعر» مرت بها دفعتها إلى بدء المرحلة الجديدة، وذلك بعد سنوات طويلة من «استقرار» السياسات الألمانية، و«حكمة» قرارات حكومتها ذات «المعايير» المتسقة.
ففي صباح الاثنين 29 أكتوبر 2018، في أثناء مؤتمر صحفي أُطلق من العاصمة برلين، كشفت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، عن نيتها التنحي عن زعامة حزب «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» التي تقلدتها منذ 18 عامًا.
استندت رغبة ميركل المحتمَلة إلى خيبة أملها إثر الخسارات المُخزية المتلاحقة في الانتخابات الإقليمية المحلية عام 2018، مقارنة بآخر انتخابات إقليمية عُقدت منذ خمس سنوات. في أثناء الانتخابات الحالية، تواجه ميركل سقوط شعبية حزبها، ومنها انتخابات الولاية الأغنى اقتصاديًّا «هسن»، حيث تقع العاصمة الاقتصادية للبلاد «فرانكفورت»، وفيها أكبر مطارات ألمانيا.
انتابت ميركل مشاعر بأن الوقت قد حان «لبدء فصل جديد»، لتفسر حديثها بأنها تخطط لاستكمال فترة ولايتها في المستشارية حتى انتهائها عام 2021، في الوقت الذي تأكدت فيه نيتها عدم الترشح للمنصب مستقبلًا، بعدما اعتادت الذهاب صباح كل يوم إلى مكتب المستشارية لمدة 14 عامًا حتى لحظة إعلانها رغبتها غير المتوقَّعة، ولا تتوقع البحث عن أي منصب سياسي آخر، لتقطع الشكوك التي تحوم حول رغبتها في التقدم لمنصب في الاتحاد الأوروبي.
الصورة الحالية تبدو مهتزة ومشوشة لأقوى امرأة في العالم التي طالما أخفت الجانب الناعم لشخصيتها كي تُشبِع شهيتها للنجاح والتألق.
لكن طريق ميركل للنجاح لم يكن ممهدًا، وكانت الصعاب لها بالمرصاد. لكن في ذروة قوتها لم تكن تأبه الأشواك.
الطريق إلى عالم السياسة
ربما تكون ميركل قررت إنهاء مشوارها في عالم السياسة بتلك الطريقة التي لا تنسجم إطلاقًا مع بدايته. فمنذ ولادتها كانت مثالًا للطموح ومواجهة الأزمات بكل ما فيها من عزم.
ولدت «أنغلينا دوروثي ميركل» في 17 يوليو 1954 بمدينة هامبورغ التي تعد ولاية فيدرالية تقع شمال غرب ألمانيا، لأب يدعى «كاسنر» تعود جذوره إلى برلين، ويعمل قسًّا في الكنيسة البروتستانتية اللوثرية التي كانت ألمانيا أحد أهم مواطن انتشارها، ولأم تعمل مُدرسة للغتين الإنجليزية واللاتينية.
انتقلت ميركل مع أسرتها، حيث استُدعي والدها للرعوية في مدينة برلبرغ التابعة لولاية براندنبورغ التي تقع في ألمانيا الشرقية، المحتلة حينها من الاتحاد السوفييتي.
تحت الاحتلال السوفييتي، انهمكت ميركل في دراسة الفيزياء لمدة خمس سنوات في جامعة لايبتزغ التي تقع في ولاية ساكسونيا في ألمانيا الشرقية، لتستكمل دراستها، حتى حصلت على درجة الدكتوراة مختصة في «كيمياء الكم» عام 1986.
خلال فترة دراستها، تزوجت في عمر الثالثة والعشرين من زميلها «أولريش ميركل» عام 1977، ثم انفصلا بعدها بخمس سنوات دون أن تُرزق بأطفال، لكن لقبه ظل ملتصقًا بها. وفي 1998 تزوجت من أستاذها الجامعي «يواكيم سوير» في عام 1981.
في الجامعة انضمت ميركل إلى مجموعة صغيرة من زملائها في حملة لإعادة إعمار «مورتيزباستاي»، وهو الحصن الأخير من المعالم القديمة في مدينة لايبتزغ، والذي يعد الآن مركزًا ثقافيًّا عالميًّا. ثم انخرطت في نادي «الشباب الألماني الحر» المدعوم من حزب «الوحدة الاشتراكية».
البداية البارزة لميركل في عالم السياسة بُعيد ثورات انهيار الشيوعية عام 1989، حين اختيرت متحدثة باسم أول حكومة ديمقراطية منتخَبة في ألمانيا الشرقية عام 1990، بقيادة «لوثر دي مايتسيره». وبعد إعادة توحيد ألمانيا في العام نفسه، نجحت ميركل في انتخابات البرلمان الألماني (البوندستاغ) عن ولاية مكلنبورغ فوربومرن التي تقع شمال ألمانيا.
بسبب عملها الدؤوب وقدراتها المتنامية، عُيِّنت ميركل على رأس وزارة «المرأة والشباب» عام 1991، في حكومة المستشار الألماني «هلموت كول» الذي كان يشغل هذا المنصب منذ 1982 حتى 1990 في ألمانيا الغربية، ثم استمر في نفس المنصب بعد إعادة توحيد ألمانيا حتى 1998.
انطلاقًا من جدارتها التي أثبتتها في وزارة المرأة والشباب، انتقلت إلى قيادة وزارة «البيئة وحماية الطبيعة والسلامة النووية» عام 1994. في الوقت نفسه قويت شوكتها داخل الحزب الديمقراطي المسيحي، لتُعلِن منه عام 1998 خوضها الانتخابات الفيدرالية لانتخاب المستشار الألماني على يد أعضاء البوندستاغ.
خسرت ميركل الانتخابات الفيدرالية عام 1998، لكنها اختيرت سكرتيرة عامة للحزب في العام نفسه. بعدها بعام واحد تربعت ميركل على عرش الحزب، إثر فضيحة تمويل وتبرعات فاحت رائحتها لتطيح برئيس الحزب «فولفغانغ شويبله» الذي يشغل حاليًّا منصب رئيس البوندستاغ.
منذ ذلك اليوم لم تبرح مكانها في قيادة الحزب. وربما اتخذت نفس قرار الاستقرار في منصب المستشارة منذ 2005، حين خسر أمامها المستشار الألماني «غيرهارد شرودر» الذي قاد البلاد من 1998 إلى 2005، مرشَّحًا عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
في 2007، ترأست ميركل المجلس الأوروبي الذي يجمع رؤساء دول أو حكومات البلدان الثماني والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وترأست كذلك مجموعة الثماني التي تضم الدول الصناعية الكبرى في العالم. وفي العام نفسه، مهَّدت للمناقشات التي تمخَّض عنها إعلان برلين الذي يعد حجر الأساس لاتفاقية لشبونة الذي وحَّد صوت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بشأن السياسات التي يجب إقراراها بالإجماع داخل مجلس الاتحاد الأوروبي، وبتلك الاتفاقية اعتمد اليورو عملة رسمية داخل الاتحاد الأوروبي.
تفكير ميركل في النجاح لا يتوقف حتى تصعد إلى القمة في نهاية الأمر. على مستوى دراستها الجامعية حصلت على درجة الدكتوراه، وعلى مستوى حزبها اعتلت رئاسته، وعلى مستوى البوندستاغ صعدت إلى قمته، وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي نجحت في توحيد صوته. لكن طريق النجاح دائمًا ما يكون مليئًا بالأشواك والعثرات، وقرارها بالرحيل عن عرش أوروبا خاتمة قد يعصف بكل تلك النجاحات في لمح البصر.
أنغيلا.. لا تستقيلي!
"أنغيلا، لا تستقيلي: هل استقالة ميركل في مصلحة روسيا"، عنوان مقال غيورغي بيريزوفسكي، في "غازيتا رو"، حول تأثير انسحاب ميركل على سياسة الاتحاد المسيحي الديمقراطي الخارجية.
وجاء في المقال: بات معلوما أن ميركل لن تترشح لرئاسة الحزب الديمقراطي المسيحي في مؤتمر الحزب القادم في ديسمبر.. وفي الوقت نفسه، صرحت بأنها، على الرغم من استقالتها من رئاسة الحزب، سوف تحتفظ بمنصب المستشار حتى العام 2021.
كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" في مقال افتتاحي أن أوروبا بعد مغادرة ميركل منصبها كرئيسة للحكومة الألمانية، ستفقد أحد القادة الغربيين البارزين المعاصرين.
إنما يستبعد خبير المعهد الدولي للدراسات الإنسانية والسياسية، فلاديمير بروتير، أن يؤثر رحيل ميركل على موقف ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، حيث تلعب البلاد دور قاطرة اقتصادية للاتحاد الأوروبي. فقال: "في الواقع، يعيش الاتحاد الأوروبي على المال الألماني. لذلك، لن يكون هناك أي اتحاد أوروبي من دون ألمانيا على الإطلاق. ولا علاقة لذلك بميركل. خلال فترة حكمها، ضعف دور ألمانيا، على الرغم من خروج بريطانيا من الاتحاد".
في الوقت نفسه، قد يكون لقرار المستشارة ترك منصبها تأثير على العلاقات بين ألمانيا وروسيا.
وأضاف بروتير: "لدى روسيا علاقات شديدة التعقيد مع الحزب الديمقراطي المسيحي. فالجناح المعادي لروسيا في هذا الحزب قوي جدا... الكثير يعتمد على من سيستلم مكان المستشارة (في الحزب").
وقد عبّر رئيس تحرير مجلة "أوروبا المعاصرة"، فيكتور ميرونينكو، عن فكرة مماثلة لـ"ريا نوفوستي"، فشكك في أن يدعم سياسي ألماني آخر روسيا مثل ميركل. وقال: "على الرغم من الخلافات حول مختلف القضايا السياسية، تبقى ميركل السياسية الوحيدة التي تعلن بثبات واستمرار استحالة حل مشكلة واحدة في العالم من دون مشاركة روسيا".
ووفقا له، سيكون من الأفضل بالنسبة للسياسة العالمية أن تظل ميركل مستشارة ألمانية لأطول فترة ممكنة. ويعتقد ميرونينكو أن ميركل تعدّل إلى حد كبير ردة فعل أوروبا على خطوات روسيا السياسية.
"ماما ميركل" اللاجئين، المرأة الحديدية التي تركت قيادة حزبها طواعية
بعد أن أعلن مسؤولون كبار في الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني أن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لن تترشح مجددا لرئاسة الحزب في الاجتماع الذي يعقده الحزب في أوائل شهر ديسمبر/كانون الاول المقبل بعد 18 عاما امضته في هذا المنصب.
وذكرت مصادر في الحزب أن ميركل لن تترشح أيضا في انتخابات البونستاغ الألماني (البرلمان الاتحادي) المقبلة التي تجرى عام 2021.
وجاء ذلك في أعقاب الخسائر الكبيرة التي مني بها حزبها في الانتخابات المحلية بولاية هيسن غربي البلاد.
وأعاد البرلمان الألماني في الرابع عشر من مارس/آذار 2018 انتخاب ميركل مستشارة لألمانيا للمرة الرابعة. وحصلت ميركل على 364 صوتا من أصل 688 من أصوات نواب البرلمان. وكانت قد واجهت تحديات كبيرة وبتأخير دام ستة أشهر لإجراء مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة في تحالف بين المحافظين والاشتراكيين الديمقراطيين.
وستكون هذه الولاية هي الأخيرة لها، أما الحزب الديمقراطي الاشتراكي حليف ميركل، فقد قرر مراجعة التحالف خلال 18 شهراً، ويرى مقربون من ميركل أن هذا التحالف قد ينتهي قبل أوانه.
ووعدت ميركل بالإسراع في إعادة صوت ألمانيا القوي في ما يتعلق بإصلاحات الاتحاد الأوروبي. وقد أطلق اللاجئون عليها لقب "ماما ميركل" عندما فتحت باب اللجوء للنازحين وخاصة السوريين في عام 2017.
وتقول ميركل في تصريحاتها القليلة بشأن حياتها الخاصة إنها عاشت طفولة سعيدة مع أخيها ماركوس وأختها إيرين، وإنها اختارت دراسة الفيزياء لأن الحكومة الشيوعية في ألمانيا الشرقية وقتها، كانت تتدخل في كل شيء باستثناء "قوانين الطبيعة".
المرأة الحديدية
وأطلقت عليها الصحف والمجلات العديد من الألقاب منها بينها السيدة الحديدية، لمواقفها الصارمة ومنهجها العلمي الجاف مقارنة بالعمل السياسي التقليدي، كما يطلق عليها الألمان لقب "الأم"، لما يجدون فيها ربما من عاطفة وتفاعل مع حاجياتهم الاجتماعية.
وصنفتها مجلة فوربس الأمريكية أقوى امرأة في العالم نظرا لبقائها في الحكم مدة طويلة ولنجاحها الاقتصادي الباهر وصمود ألمانيا أمام الأزمة الاقتصادية العالمية، التي أصابت أغلب دول أوروبا بالركود، وكادت أن تودي بأخرى إلى الإفلاس.
وفاجأت المستشارة الألمانية العالم عندما فتحت حدود بلادها لجميع اللاجئين عندما اشتدت أزمة المهاجرين الهاربين من الحروب والمجاعة نحو أوروبا، ومقتل الآلاف منهم في البحر الأبيض المتوسط.
وواجهت ميركل معارضة كبيرة في بلادها بعد دخول أكثر من مليون لاجئ ومهاجر إلى ألمانيا، وتراجعت شعبيتها في الانتخابات، لكنها تمسكت بموقفها من اللاجئين، وكان يتوقع أن تفوز بجائزة نوبل للسلام.
ولكن صورة ميركل مختلفة في دول مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا، إذ تصفها وسائل الإعلام هناك بالشدة والتجبر، لأنها فرضت، من خلال الاتحاد الأوروبي، على هذه الدول إجراءات تقشف وصارمة مالية، عانت منها طبقات اجتماعية واسعة.
تجسس أمريكي
وتصدرت ميركل عناوين الصحف العالمية في 2013، عندما اتهمت أجهزة المخابرات الأمريكية بالتنصت على مكالماتها الهاتفية، وقالت في مؤتمر لقادة الدول الأوروبية "إن التجسس بين الأصدقاء أمر غير مقبول".
وأفادت تقارير لاحقة أن وكالات الاستخبارات الأمريكية قد تكون تراقب ميركل منذ 2002.
وتعرف أنغيلا ميركل في محيط عملها بأنها قليلة الكلام، ولكنها تمطر مساعديها والمسؤولين في حكومتها بالرسائل النصية، إذ كثيرا ما لوحظت وهي عاكفة على هاتفها، أثناء المؤتمرات واللقاءات الدولية، فهي امرأة شغوفة بالتكنولوجيا المتطورة، ونشطة على مواقع التواصل الاجتماعي.
اضافةتعليق
التعليقات