كأي بودكاست آخر، يجلس المستضيف و ضيفه على طرفي طاولةٍ خشبية تعلوها مكبراتٌ للصوت بصورة مرئية وشاشةٍ خلفية يظهرُ فيها عنوان الحلقة بارزاً، وحين ينتهي العد التنازلي، يُطرحُ السؤال الوجودي الأهم على الإطلاق: "كيفّ حالكُ؟" لتُفتحُ عندها بوابةُ الضيف نحو عوالم المعرفة أجمع، فيبدأ في الحديث مُنساباً بين الحياة والألم والدين والفلك وقد يَصُلُ بهِ الحال إلى التكلمِ حول كل ما يدبُّ فوق الأرض وما يسبحُ في طبقات السماء لكونهِ فقط وفقط ضيفُ بودكاست. لكنَّ بودكاست اليوم ليسَ كأي واحد آخر، فالطاولة لا تمتدُ في مساحة واحدة ولا في زمن واحد بل تبدأ من مكاننا وتنتهي في مساحةِ طينية قبل أكثر من 1500عام، لتُلقى التحايا بظروفٍ و بلغاتٍ مختلفة، كُلٌّ منا في لحظتهِ الخاصة وجغرافيتهِ المحيطة بهِ.. فهل سيجوبُ سؤالنا المُقتضبُ عن حاله في عوالمَ معرفته؟
سؤال الحال عند ضيفنا لا يعلمُ التشعب ولا يُتبعُ بفقهٍ فارغ أو محدودٍ كما عند ضيوف اليوم، فالحسنُ (عليه السلام) كانَ يَحملُ شعار الاستماع في حينِ أنهُ الأحقُ بالتكلم، فقولهُ: "نِعْمَ اَلْعَوْنُ اَلصَّمْتُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَإِنْ كُنْتَ فَصِيحاً"، هو القاعدة الأولى التي يجب أن يتأسس عليها مبدأ التحدثُ والذي تقومُ عليه فكرة (البودكاست)، فلقد استخدم الحسنُ بن علي (عليه السلام) كلمة (الصمت) حصراً دون (السكوت) لكونها لغوياً وبلاغياً تشيرُ إلى الامتناع عن قولِ الباطل الذي يظهرُ مستتراً في أغلب الأحيان في الحديث المُبرمج خارج حدود الاختصاص، فسمةُ الحديث بلا قيود التي جذبت الشريحة الأوسع من المجتمع، صارت تتلاعبُ على حدي المشاعر والأسلوب مموهةً في أغلبِ الأوقات فكرة التخصص في الفحوى..
لكنها دون أدنى جدوى، فنرى ضيفاً مُختصاً في الأرقام الرياضية يمنحُ العالمَ دروساً في السلام والأمان وكيفية التعامل مع الأسئلة الكونية والإلحادية ب5 خطوات وقد تُختصر لتصل إلى خطوةٍ واحدة مع زيادة عدد المشاهدات المرامة من الجمهور الافتراضي، مؤكداً في طرحه على أسماء لاتينية لعلماء لا وجودَ لهم إلا في عقلِ المُستقبلين، كي تتعزز الفكرة بروابطِ الغرب حصراً.
لكنَّ الفحوى عند الحسنِ (عليه السلام) هي العودة إلى الدائرةِ الأولى في كل مناحي الحياة، حيثُ القرآن والعترة بشرطها وشروطها، فلقد عنونَ المجتبى (عليه السلام) غالبيةِ خُطبهِ بالدعوة إلى القرآن وموالاة أهل البيت (عليهم السلام) كعنوانٍ فضفاض موجهاً بذلك بصيرة الأمة نحو اتباع أهل الاختصاص بشرطِ أن تؤخذَ الكلمة ممن هُم أعلمُ بهم.
فلا سبيلَ للميل إلا بقيادة جاهلٍ أعطي زمامَ الأمة وحريةَ الكلمة، فقد أبرزَ بودكاست هذا العصر عقولاً فارغة لكنّها مفوّهةً بالحِكم التي تتلاعبُ حتى بشرح مقاصد الأئمة والقُرآن بما يتناسبُ مع موضوعهم خلفَ مُكبّر الصوت الذي سيدوّي في عقول المستمعين، ضامنينَ بذلكَ الاحتفاظ بالهالة والغفلة لكلا الطرفين على حدي سواء، فلو كانَ الحسنُ (عليه السلام) بيننا لأسس البودكاست على فكرة واحدة "إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه".
اضافةتعليق
التعليقات