يُذكَر في كُتبِ المقاتل "أن نافعُ بن هلالٍ برز، فأخذ يرمي بنِبالٍ مسمومةٍ كتب على أفواقها اسمَه، وجعل يقول:
ارمي بها مُعلَمَـةً افواقها مَسمومَةً تجري بها أخفاقها
لَيَمـلأنّ أرضها رَشّـاقُـها والنفس لا ينفعُها إشفاقُها
فقَتَل اثني عشر رجلاً من أصحاب عمر بن سعد سوى مَن جَرَح.. حتّى فَنِيَتْ نِبالُه، عندها جَرَّد سيفَه يضرب في أعدائه فتَواثَبوا عليه وأحاطوا به يرَمُونَه بالحجارة والنِّصال، حتّى كسَرَوا عَضُدَيه فأخَذوه أسيراً "(١).
المحور الذي تدور حوله سمات هذا الناصر والصاحب للإمام الحسين (عليه السلام)، هو هذا المقطع من ارجوزته [والنفسُ لا يَنفعُها إشفاقُها] فالهيمنة على النفس، ومعرفة ما لها وما عليها -هو كما يبدو- ما أوصله إلى ما وصل إليه، فالنفس ترقى بمعرفة صاحبها لقيمتها وببذلها فيما يستحق، فكلما كان المبذول له شيء أعظم واكبر في هذا العالم، كلما سمت وارتقت وتكاملت في ذلك العالم.
فهذه الحقيقة التي قالها فيها اشارة الى هذا المعنى، أي إن هذا هو موطن بذلها، لا موطن الإشفاق عليها، ولهذا لما قال له الإمام الحسين (عليه السلام):ـ " ألاَ تَسلُكُ بين هذينِ الجبلَينِ في جوفِ الليل وتنجو بنفسك؟! وقع نافعٌ على قَدَمَي الإمام يُقبّلهما ويقول:ـ ثكلَتْني أُمّي! إنّ سيفي بألف، وفَرَسي بألف، فَوَاللهِ الذي مَنّ بك علَيّ، لا فارَقْتُك حتّى يَكِلاّ عن فَرْيٍ وجَرْي"(٢).
بل لما نتأمل في أجوبته لما وقع بين يدي الأعداء نجد ذات الحقيقة يشير إليها في حديثه، وذلك في قوله لما "أمسَكْه الشمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه يَسوقونه.. حتّى أتى به عُمرَ بنَ سعد، فقال عمر: وَيْحك يا نافع! ما حمَلَك على ما صنعتَ بنفسك؟! أجابه نافع: إنّ ربّي يَعلَم ما أردتُ"(٣).
الملفت أن محور الحديث هو ايضاً كان عن هذه النفس، وكم إجابته فيها ترفع عن التبرير وهذا فيه كشف لجانب قوة تتمتع بها هذه النفس، فالإجابة كانت حازمة جازمة عن معرفة صاحب هذه النفس لمقصده، فهو قال: أنا لا حاجة لي لأعلمك بماذا صنعت بهذه النفس، فالأمر كل الأمر هو ما أردته من هذا الصنيع هو معلوم عند الله تعالى، وكأنه يشير إلى جواب استفزازي للسائل- أي عمر بن سعد- بمعنى إنظر أنت ماذا صنعت بنفسك، وبماذا ستجيب الله تعالى ربك؟ فالمسألة في النهاية هي أن الحاكم هو الله تعالى، وهذه النفس ملكه سبحانه.
أما فيما قيل له "من قِبَلِ رجل ـ وقد نظر إلى الدِّماء تسيل على وجهه ولحيته: أما ترى ما بك؟! فأجابه نافع: واللهِ لقد قَتَلتُ منكم اثنَي عَشَر رجلاً سوى مَن جَرَحتُ، وما ألوم نفسي على الجَهد، ولو بَقِيَتْ لي عَضُدٌ ما أسرَتُموني "(٣).
كان الرد ذات الرد، وهو التركيز على ما بذل والذي سيلاقي به الله تعالى، لا بما فقد أو خسر، فهو ناظر للثمار الاخروية لا الآثار الدنيوية، هو لا ينظر لتلك الدماء السائلة ولا لجوارحه المقطعة على أنها خسران بل علامة اثمار لجهوده، لمجاهدته لاعداء الحق، فالنفس التي ترى هذه الثمار لا تلام على جهدها بل تتمنى المزيد حتى ولو كان المزيد هو من الجراح والآلام.
ثم قال شمر لابن سعد: "اقتُلْه ـ اصلَحَك الله! قال ابن سعد: أنت جِئتَ به، فإن شِئتَ فاقتُلْه". هنا نلحظ أن عمر ما تمكن من قتله، ولعل ذلك الجواب قد أثر فيه وارجعه الى نفسه فرأى ما صنع بنفسه من معاداة خير خلق الله تعالى.
أما قوله لما "جرّد شمرٌ سيفَه.. حيث قال له نافع: ـ أمّا واللهِ ـ يا شمرُ ـ لو كنتَ من المسلمين، لَعَظُم عليك أن تَلقى اللهَ بدمائنا!"(٣)، ففيه بيان إن شمراً قد محض الكفر محضاً حتى دخل في زمرة شرار خلق الله تعالى، فخرج من زمرة أهل الإسلام فأين هو وأين اهل الإيمان؟!
وهكذا ختم رحيله بهذه العبارة "فالحمدُ لله الذي جَعَل مَنايانا على يَدَي شِرارِ خَلْقه"(٣)، وهنا نشير إلى أمرين: الأول إن من علامات حُسن العاقبة أن يُختم للإنسان بالقتل على أشد خلقه عداوة للحق، إذ لا يقتل خيار الخلق إلا شرار الخلق، أما الثاني ففيه جنبة من الأدب مع الله تعالى فهو لا يجزم على الله تعالى بنيل رفقة خيار خلقه إنما صرح بما هو ظاهر أمامه من واقع، مع إنه كان ذو يقين وقد بشره نفس الإمام الحسين (ع) واراه منزلته في الجنة، ولكن ما أوصله لهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى هي هذه المعرفة، هذا التواضع في جنب ما اعطى وما بذل.
وهكذا "قدّمه الشمر، وضَرَب عُنُقَه"(٣)، فسمت نفسه إلى حيث مجاورة النفوس الزاكيات، ونال بذلك من عظم المقام ما نال، كيف لا! وقد خصه خاتم الحجج (عج) بالذكر والسلام في زيارته لجده سيد الشهداء.
—————
اضافةتعليق
التعليقات