عندما نتأمل في التاريخ الحديث، تتجلى أمام أعيننا مظاهر متعددة لحالة الحقد الممنهج الذي مارسته بعض القوى ضد رموز الدين والهوية، سواء على مستوى الأفراد أو الأرض أو حتى المقدسات، ولعله من أبرز هذه الصور المشؤومة ما حدث لأئمة البقيع (عليهم السلام)، حيث تم تهديم قبورهم على يد السلطة الوهابية في عام 1344هـ، تحت مبررات ظاهرها ديني وباطنها حقد دفين على رموز مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، هذه الحادثة لم تكن مجرد اعتداء على أحجار، بل محاولة لمسح هوية وتاريخ وشعور ملايين الشيعة الذين يرتبطون وجدانياً بالأئمة الأطهار.
وما جرى في البقيع هو صورة مصغرة لنهج خطير يتجاوز الجغرافيا، ويعيد إنتاج ذاته بأشكال متعددة، أبرزها ما نراه في فلسطين من اغتصاب للأرض وطمس للهوية، فكما تم تهديم القبور في المدينة المنورة بهدف اجتثاث أثر آل البيت، يتم في فلسطين اليوم تهويد المقدسات وتهجير السكان الأصليين ومحو المعالم الإسلامية والمسيحية في القدس، في محاولة لتغيير الطابع التاريخي والديني لهذه الأرض.
إن تهديم قبور أئمة البقيع (عليهم السلام) لم يكن مجرد عمل تخريبي عابر أو قرار ديني كما يحاول البعض تصويره، بل هو تعبير صارخ عن ثقافة حاقدة متجذرة، هدفها طمس التاريخ وتدمير رموز الهوية الإسلامية التي تمثل الامتداد الروحي والفكري لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي عام 1344هـ، أقدمت السلطة الوهابية المدعومة حينها من الاستعمار البريطاني على جريمة هدم قبور أئمة البقيع في المدينة المنورة، وهم الإمام الحسن المجتبى، والإمام زين العابدين، والإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق (عليهم السلام). هذه القبور لم تكن مجرد معالم حجرية، بل كانت شواهد على تاريخ الإسلام، ومقامات لأئمة بذلوا حياتهم في سبيل الدين والحق.
هذه الجريمة، التي تم تمريرها باسم "التوحيد"، ما هي إلا محاولة لإلغاء تاريخ مدرسة أهل البيت وإقصاء رموزها من ذاكرة الأمة. وقد تكررت هذه المنهجية في أكثر من موضع، حتى أصبحت ثقافة راسخة لدى بعض الأنظمة والتيارات، تقوم على إلغاء الآخر وشيطنته، حتى لو كان ذلك الآخر من نسل النبي الأكرم نفسه.
وإذا تأملنا في القضية الفلسطينية، نرى نفس العقلية تتكرر ولكن هذه المرة من قبل الكيان الصهيوني. فاحتلال فلسطين لم يكن فقط سرقة أرض، بل سرقة هوية وتاريخ وحضارة بأكملها. تم تهجير السكان، وهُدمت القرى، واستُبدلت الأسماء، وتم تهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية، وعلى رأسها القدس الشريف والمسجد الأقصى. العقلية الصهيونية، تماماً كالعقلية التي هدمت البقيع، لا تقبل بالتعدد ولا بالحق التاريخي، بل تنطلق من حقد عميق وإرادة لفرض واقع قسري عبر القوة والدعم الغربي.
والذي يربط بين جريمة البقيع ومأساة فلسطين يجدها ليست محض مصادفة، بل هو قراءة واعية لمسار تاريخي ممتد من الظلم والتشويه ومحاولات الاجتثاث، فمن يهدم القبور اليوم، لن يتردد غداً في هدم المساجد والبيوت، ومن يزوّر التاريخ في المدينة، سيفعل ذات الشيء في القدس.
وعليه، فإن إحياء ذكرى تهديم البقيع يجب أن يكون بوابة لرفع مستوى الوعي والربط بين قضايا الأمة، فالمعركة واحدة، والعدو بأقنعته المتعددة يسعى دائماً لاغتيال الذاكرة ودفن الهوية. وحده الوعي، والموقف المبدئي، قادر على التصدي لهذه الثقافة الحاقدة المتوارثة.
اضافةتعليق
التعليقات