كان الأمر وشيك الحدوث، إنها نقطة الفصل بين الحياة والموت، رائحة المعقمات الحادة تجرح أنفي، والممرات الفارغة تثير قلقي، جسدي يهتز مع صوت الـ (تيك تيك) الصادر من أجهزة القلب المربوطة بالمرضى.
الدقائق ثقيلة جدا، والثواني تجر نفسها بصعوبة وكأنها تحمل على ظهرها أطنانا من القلق، تيقنت حينها بأن لحظات الانتظار هي أصعب اللحظات في حياة الإنسان.
وكأني في موعد مع الموت، راجعت كل الذكريات التي جمعتني بها منذ لحظة استيعابي للحياة وحتى لحظتي هذه، لم أكن أملك الكثير من الوقت لأجلس معها وأحتسي الشاي... كنت دائما مشغولا في العمل والدراسة.
أتذكر تحديدا كم هدية قدمت لها، أستطيع عدها على أصابع يدي، إنها بالكاد لا تتعد السبع أو ثمان!
يا للعار لقد قضيت معها أكثر من عشرين سنة، ولم أجلب لها بالكاد ثماني هدايا؟، لو كنت جلبت لها على الأقل في كل موسم هدية لأصبح المجموع أربعين هدية، إلاّ إني كنت أتذكر صدفة كل سنتين أو ثلاث وأجلب شيئا لا قيمة له حتى!
وما فائدة الاعتراف الآن وهي ترقد على ذلك السرير الأبيض والأسلاك الكهربائية مزروعة في صدرها؟
كم هي جميلة هذه القلادة وهي جالسة على عنقها بكل سكون، ولكن لماذا إحدى القاعدات الذهبية تخلو من الحجر الأحمر الجميل؟
أوه يا إلهي تذكرت، قبل شهرين أصرّت عليّ كي نأخذ القلادة إلى محل التصليح نركب للقلادة حجرا جديدا ونصلح اعوجاج السلسال، ولكني تعذرت لها عن ذلك وأجلت الأمر إلى يوم آخر ونسيت بعدها أمر القلادة تماما!
يا لغبائي من الواضح أن هذه القلادة مهمة جدا بالنسبة لها، فقد ارتدتها رغم أنها ناقصة وتحتاج إلى التصليح... لقد نسيت الأمر أو تناسيته بالأحرى لأني ظننت بأن الأمر تافه ولا يحتاج أن تتأجل مباراة كرة القدم من أجل الذهاب إلى محل التصليح وأنها يمكن أن ترتدي غيرها!
وأنا في هذه اللحظة بإمكاني أن أعد كل لحظات الإهمال التي عاشتها بسببي وأن أحسب كل الدموع التي سقطت من عينها وهي تنتظر مني لمسة اهتمام، أو هدية بسيطة أخبئها تحت وسادتها أو رسالة مفاجئة أدفئ بها قلبها الحنون في عز انشغالات العمل، أو حتى عزيمة على عشاء في مكان هادئ وجميل، أو وردةً حمراء أو بيضاء أو حتى صفراء أقدمها لها بلا مناسبة... ماذا دهاني يا الله، لماذا وهبتها حياة باردة مع إني كنت قادرا على اهدائها حياةً مليئة بالحب والدفء؟ حتما سأفقد صوابي لو حصل لها أي مكروه... لماذا أعد خيباتها معي الآن وكأن ذاكرة ضميري قد تنشطت أو استيقظت للتو من سباتها الأبدي!
لو حصل لها شيء لن أسامح نفسي على كل يوم استيقظت فيه ولم أقبل جبينها في الصباح، وعلى كل مرة عدت فيه من العمل وفضلت أن اتناول الطعام في الغرفة بمفردي بينما أشاهد نشرة الأخبار وحرمت نفسي من رؤية وجهها الملائكي..
يا ويلاه متى كانت آخر مرة قلت لها طبخك شهي، أو حتى شكرا لأنك بجانبي شكرا لأنك تتحملين سخافتي ومزاجي العكر ولم تتذمري يوما مني، متى كانت آخر مرة قلت لها أحبك؟، ربما بعد سنتين أو ثلاث من زواجنا؟، لماذا يا ترى تناسيت قول هذه الكلمة لها على الرغم من أني أحبها جدا؟، لماذا بخلت عليها بمشاعري لماذا أطفأت توهجها، لماذا فعلت معها كل هذا؟
حصرت رأسي بين رجليّ وشرعت بالندم والدموع تتساقط من عيني على الأرض أدمدم مع نفسي "ارجعوها لعلني أعمل لها الصلاح" حتى تسارعت أصوات (التيك تيك) وخرجت الممرضة من غرفتها ونادت الطبيب وهرع الكادر الطبي مع الطبيب إلى غرفتها وبينما وقفت مشدوها لأعرف ما الذي حدث أغلقوا الباب في وجهي ولم أسمع إلاّ صوت جسدها وهو يرتفع على أثر الصعقات الكهربائية ويسقط على أثر خيبتي...
اضافةتعليق
التعليقات