في سابقة من نوعها، انتُخبت أول نائبة من أصحاب متلازمة داون في البرلمان الإسباني، فبفضل إصرارها وكفاحها من أجل التغيير، استطاعت مار غالسيران (45 سنة)، أن تثبت أن هذه الفئة من الناس قادرة على تحقيق إنجازات وعلى المشاركة في صنع القرار أيضاً. وكانت قد بدأت رحلتها في مجال السياسة مع انضمامها إلى "حزب الشعب" المحافظ، وكانت آنذاك بعمر 18 سنة.
أما هذا الإنجاز التاريخي لذوي "متلازمة داون"، فأتى نتيجة جهود طويلة بذلتها غالسيران في دعم ذوي الاحتياجات الخاصة في إسبانيا لتضمن سياسات عادلة وشاملة لهم كجزء من المجتمع. لكن، في مقابل الدول التي قطعت أشواطاً في هذا المجال مع تأمين حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة عامةً وأصحاب متلازمة داون بشكل خاص، لا تزال هذه الفئة من الناس مهمشة في كثير من المجتمعات الأخرى حول العالم، على رغم أن كثيرين ممن ينتمون إليها أثبتوا أنهم يتمتعون بقدرات فائقة تستحق التقدير. فهل من تفاوت فعلي بين المصابين بمتلازمة داون على مستوى الذكاء والإمكانات أم أن عناصر معينة قد تساعد على تطوير هذه القدرات؟
بين الجينات والمتابعة
يولد سنوياً ما بين 3000 و5000 من الأطفال المصابين بمتلازمة داون بحسب موقع الأمم المتحدة. لكن، تلك الحالات لا تتشابه، ولكل منها خصوصيتها، هذا ما توضحه الطبيبة المتخصصة في الأمراض الوراثية في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت الدكتورة ندى عساف. وأضافت "يحصل هذا التفاوت بين ذوي متلازمة داون على أساس عنصرين أساسيين، أولهما العامل الجيني، فقد يكون هناك تفاوت في عدد الخلايا أو الصبغيات التي تحمل الكروموزوم الإضافي 21، ما يؤدي إلى الاختلاف بين حالات الاضطراب الصبغي. وبقدر ما يزيد عدد الخلايا المتأثرة أو نسبتها، تتأثر الحالة بمعدل أكبر على مستوى الذكاء، والسلوك، والقدرات، والشكل أيضاً، والعكس صحيح، فعندما تنخفض نسبة الخلايا المتأثرة، يزيد معدل الذكاء والإمكانات. حتى أنه ثمة حالات قد لا تظهر فيها علامات تدل على الاضطراب الصبغي، علماً أنه في معظم الحالات ترتفع نسبة الخلايا التي تحمل الكروموزوم 21 مقارنةً مع تلك التي لا تحملها، وعندها يظهر التفاوت بين الحالات على أساس مستويات الإحاطة الشاملة لها في أسلوب العيش. بالتالي، يبرر العامل الجيني الاختلاف في قدرات الأشخاص ذوي متلازمة داون، لكن جزئياً فقط، بما أن المتابعة من النواحي الجسدية، والفكرية، والنفسية، ووجود البيئة الحاضنة هي التي تحدث فارقاً مهماً وهي الأهم".
وأضافت الدكتورة عساف أن "تعزيز قدرات أصحاب متلازمة داون يرتبط إلى حد كبير بالإحاطة الشاملة والمتابعة المتواصلة، بدءاً من الناحية الصحية. إذ تُعتبر هذه الفئة من الناس الأكثر عرضة للإصابة بأمراض معينة، ومنها أنواع من السرطان، ما يستدعي خضوعهم لفحوص دورية، وصور أشعة، وفحوص سمع ونظر من الولادة ثم لاحقاً بشكل متواصل للحد من المشكلات الصحية التي يواجهونها، ومن تبعاتها. إضافة إلى العلاج الفيزيائي من الولادة وفي مختلف مراحل الحياة، وعلاج النطق، والتمارين الحركية. كما تبرز أهمية المتابعة التربوية في مدرسة متخصصة قادرة على التعامل مع هذه الحالات بالشكل الصحيح. بشكل عام، يظهر الفرق الشاسع بين الحالات بحسب مدى توافر البيئة الحاضنة إلى أن يتمتعوا بالاستقلالية ويعتمدوا على أنفسهم في الحياة وينخرطوا بشكل فاعل في المجتمع. حتى أن معدل سنوات العيش ارتفع بنسبة 10 أو 20 في المئة بالمقارنة مع ما كان عليه في السابق، بفضل المتابعة المستمرة المتعددة الأوجه والمقاربة المختلفة في التعامل معهم".
تفاوت بين الدول
وتفوّقت دول على أخرى في دمج الأشخاص ذوي متلازمة داون في المجتمع وطرق التعاطي معهم حتى يبلغوا المرحلة التي يتمتعون فيها باستقلالية تامة، ويلعبون دوراً في المجتمع في مختلف المجالات، كشريحة منه. أما في لبنان، فثمة تحسن ملحوظ في هذا المجال مع زيادة معدلات الوعي، وتوافر الخبرات الكفيلة بإحاطة ذوي متلازمة داون من النواحي كافة. لكن ثمة مشكلة أساسية في البلاد تقف عائقاً أمام الأهل، ألا وهي غياب التغطية الصحية لمساندتهم أو أي دعم لهم، أياً كان نوعه، ما يحد من قدرتهم على متابعة أطفالهم وفق المعايير المطلوبة. والكل يعلم أن تأمين كافة احتياجات الطفل في هذه الحالة تعتبر مكلفة، من النواحي الصحية، والتربوية، والنفسية. حتى أن المدارس الدامجة وتلك المتخصصة لاستقباله مكلفة للغاية مقارنةً مع بقية المدارس. لذلك، غالباً لا تسمح الإمكانات المادية للأهل بإرسال أطفالهم إليها. هذا ما يؤدي إلى فرق شاسع بين الحالات في مستويات الكفاءة والإمكانات في لبنان، وأيضاً بالمقارنة مع الدول الأكثر تطوراً في طرق التعاطي معهم. وعلى رغم زيادة المبادرات الفردية الفاعلة أخيراً، هي لا تبدو كافية ما لم توضع خطة شاملة على مستوى وطني تتناول ذوي الاحتياجات الخاصة وحقوقهم من النواحي كافة. وعلى رغم زيادة المؤسسات التي تخصص جزءاً من وظائفها لأصحاب متلازمة داون، حتى اليوم ليس هناك من تعاطٍ مع هذه الشريحة بعدل وجدية، وهي تهمَّش غالباً، خصوصاً أن المشكلات التي يرزح تحتها لبنان كثيرة لدرجة تبدو فيها مشكلات تلك الفئة أقل أهمية. لذلك، لا يزال الطريق طويلاً حتى تُنصف هذه الفئة. من دون أن ننسى نظرة المجتمع غير المنصفة بحق ذوي الاحتياجات الخاصة وذوي متلازمة داون. لكن الدمج في المجتمع وفي المدارس كفيل بتغيير النظرة، بدءاً من الجيل الجديد الذي يصبح أكثر انفتاحاً في تقبل الآخر واختلافه، طالما أنه تواجد معه في المدرسة.
أما وصول غالسيران إلى البرلمان الإسباني فيتخطى كونه إنجازاً لها كمصابة بمتلازمة داون، وليس معياراً لقدراتها الذهنية الفائقة التي أوصلتها إلى هذا الموقع فحسب، من وجهة نظر عساف، "بل إن الفكرة الأساسية من وراء ذلك أن البرلمان يمثل كل الشعب بمختلف شرائحه، وذوي الاحتياجات الخاصة يشكلون جزءاً منه. بالتالي، لا بد من أن يكونوا ممثلين فيه وأن يشاركوا في سن التشريعات وفي اتخاذ القرارات، خصوصاً أن من هذه القوانين ما يتعلق بهم وهم الأكثر دراية بكل ما يتعلق بها، ما يستدعي التشاور معهم بهذا الشأن. فمن قد يكون أهلاً لذلك أكثر منهم؟".
تربية لا تخلو من التحديات
قد يكون لذوي متلازمة داون قدرات فكرية مماثلة لأي شخص آخر، أو يمكن أن تكون أقل أحياناً. إنما في كل الحالات، هناك حاجة إلى المثابرة، والجهد المتواصل، والتفاني من جانب الأهل، إضافة إلى حضورهم التام، ليصل المصاب بتلك الحالة إلى مراتب عالية. فلا تخلو تربية أصحاب متلازمة داون من التحديات التي يواجهها الأهل حتى يصل الطفل إلى مرحلة الاستقلالية، والقدرة على اتخاذ القرارات، والاندماج في المجتمع بشكل فاعل من دون مساندتهم. حتى أن الأهل قد يحتاجون إلى الدعم النفسي، تماماً كالطفل ليتمكنوا من الاستمرار في مهمتهم هذه التي تحدد ما سيكون عليه طفلهم في المستقبل. وللأسف، هذا ما نفتقده أيضاً في لبنان ومعظم العالم العربي، وهو يحول دون تطور هؤلاء الأشخاص وانخراطهم في المجتمع. فعلى الأهل أن يكافحوا بأنفسهم، وكثيرون منهم قد لا يقدرون على ذلك، ولا تسمح إمكاناتهم المادية بذلك. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات