كواكب مشرقة تضيء عتمة الدروب، بزغ ضياؤها وانتشر نور بهائها ورونقها، بعد أن دارت في فلك الرسول، تلألأت في سماء العقيدة، كنّ عبارة عن نسوة مُلهمات تحمّلن عبء الرسالة إبّان البعثة وما بعدها، قدّمن للاسلام خدمات جليلة بقيت صداها إلى ما شاء الله..
تركن الدنيا وزخارفها جانبا، وتجشمن عناء القيادة بروح ملؤها الايمان والاستقامة والتحدي والمثابرة. ورصّعن بمواقفهن صفحة التأريخ بنجوم نيّرة، أضاءت الكون بأنوار الهداية والعز والسؤدد.
لو أردنا أن نستنطق إحدى تلك النماذج من الصحابيات الجليلات، فإننا لن نجد خيرا من السيدة صاحبة الهجرتين.
_ فمن أنتِ ياسيدتي؟ ومن تكونين؟ ولماذا ُسُمّيت بهذا الاسم؟
* اسمي أسماء بنت عميس بن مَعْد بن الحارث بن تَيْم بن كعب بن مالك.
دخلتُ إلى الاسلام قبل دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله دار الأرقم، وهاجرتُ إلى الحبشة مع زوجي جعفر بن أبي طالب وأنا عروس، فولدتُ له في الحبشة عبد الله وعون ومحمد، وبعد ٱستشهاده في غزوة مؤتة، تزوجتُ من أبي بكر بن أبي قحافة، وأنجبتُ منه محمد بن أبي بكر.
ثم تزوّجتُ من علي بن أبي طالب بعد وفاة أبي بكر، وأنجبتُ منه يحيى بن علي بن أبي طالب.
_ ولكنكِ لم تذكري لنا سيدتي سبب تسميتكِ بصاحبة الهجرتين؟
* دعيني آخذ نَفَسَا يا أختاه، فلقد جئتم بي من زمن سحيق! ولمّا ألتقط أنفاسي بعد.
_ لكِ ذلك ياسيدتي.. وكلنا آذان صاغية لما تقولين.
* حديثي معكم ليس حديثا يُفترى، وليس حديثا معنعنا كما درجت العادة في نقل الأحاديث والروايات إليكم أيها المسلمون الأواخر.. فأنا عايشتُ الحدث بتفاصيله الدقيقة، نعم كُنّيتُ بصاحبة الهجرتين، ولهذه الكُنية قصة، سأحكيها بأمانة وأرويها لكم وللأجيال القادمة بلا زيادة أو نقصان..
للمسلمين الأوائل هجرة واحدة.. فقد هاجروا من مكة إلى المدينة واستقروا بها.. أما نحن فلنا هجرتان واحدة من مكة إلى الحبشة والثانية من الحبشة إلى يثرب (المدينة).
و(نحن) أقصد بها أنا وزوجي جعفر ابن ابي طالب وعدّة من أصحابنا المهاجرين، ممن تعرّض لإيذاء كفار قريش وتضييقهم وظلمهم وجبروتهم، حتى ضاقت علينا الأرض بما رحبت، فأشار إلينا النبي الأكرم بالهجرة من مكة إلى الحبشة وترك الديار والأهلين والأحباب.. فٱمتثلنا لأمر النبي وهاجرنا إلى الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بديننا، فكانت الهجرة الأولى.
ولا تنسي يا أختاه أن هذه الهجرة هي من ساهمت في نشر الاسلام ومبادئه في عموم قارة افريقيا..
ومكثنا في دار غربة قرابة اثني عشر عاما.. قاسينا خلالها الآلام وويلات البعاد ولوعات الأشتياق.
عدنا ثانية من الحبشة عبر رحلة بحرية إلى اليمن، ومن ثم برّا إلى المدينة، بعد أن استتب أمر النبي واستقرت أحوال المسلمين.. فكانت هذه الهجرة الثانية.
_ ولكن سيدتي من هو أول من كنّاك بصاحبة الهجرتين وأنالك هذه الكرامة؟
* ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله، هو أول من أعطاني هذه الكرامة وخصني بها وجمع من المهاجرين الأوائل.
والحق لابد أن يُقال، وسأذكر هذا الموقف للتأريخ وأبرّىء ذمتي.. فلقد أنصفني رسول الله وردّ لي اعتباري أمام عمر بن الخطاب.. فأنا عندما عدت ورآني عمر بدأ يتعالى ويتنّطع بالكلام ويُظهر تفاخره علينا، وهو من عرفتم رجل به غلظة وجفاء، فأسمعني كلاما قاسيا فقال لي: لقد سبقناكم بالهجرة!! فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وآله منكم!!
فغضبتُ غضبا شديدا من مقالته.. ولكننا نحن معاشر النسوة لا نقبل أن يُداس لنا على طرف، فقلتُ له: كلّا والله، كنتم مع رسول الله، يُطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البُعَداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعامًا، ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله ، وأسأله -والله- لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه..
وعاهدت نفسي كذلك لأشكونه إلى رسول الله ولن تمر مقالته بسلام.
فذهبت إلى النبي وأخبرته بمقالته فقال لي: وماذا قلتِ له؟ فقلتُ: كذا وكذا فقال لي: «ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» فما فرح أصحاب السفينة بشيء أعظم من فرحهم بمقالة الرسول العظيمة.
وهكذا برّد غليلي رسول الله وأثلج صدري وصدور من معي من أخوتي المهاجرين.
نعم تلك هي أسماء.. امرأة من الرعيل الأول.. كوكب من تلك الكواكب التي لا يطمسها الغياب ولا يعتريها الأفول، قدّمت هي وأخواتها الصحابيات الجليلات صورا ملئى بالعزة والشموخ والإباء.. فلا يرضين بالتوهين ولا يقبلن بالاستخفاف ولا يبيتنّ على ضيم.
ولئن قدّمت أسماء وأخواتها خدماتهن لتثبيت دعائم الدين الجديد، فإنّ أبناءهن واصلوا المشوار وأكملوا مسيرة العطاء والفداء.. وما عبدالله وعون ومحمد إلا قرابين حق لصدق الايمان، في خندق الحسين كانوا، وفي مواساته أسالوا دماءهم الزكية.
وهذه الفروع الولائية تُنمي إلى تلك الأصول.. تغذت من لبان الايمان ممزوجا بحب العترة الطاهرة في أحضان نسوة مواليات، وعلى العهد باقيات.
لقد كنّ نِعْمَ الصحابيات ونِعْمَ القدوات، رسمن لوحة فسيفساء متناغمة الألوان بمواقفهن النبيلة، حتى اشتد عود الاسلام وقويت عزيمة المسلمين.. فلنكن نحن معاشر النساء التابعات بإحسان خير خلف لخير سلف.
اضافةتعليق
التعليقات