لكل قضية جناحان، لن تُحلّق في سماء الخلود بدونهما، وإن ارتكزت هذه القضية على جناح دون آخر سيختلّ التوازن، فكل واحد منهما بحاجة الى الآخر ويعتمد عليه ليصل الى الهدف المنشود، كلاهما قوي ومهم في كل رسالة ومبدأ، إلا إنّ اجتماعهما يزيد الهدف قداسة إن وُظفّ بالقدر والشكل الصحيح، هما صنوان لايفترقان، توأمان وإن نراهما غير متشابهين البتّة، إلا إنهما من رحمٍ واحد، هكذا هي سُنة الله في أرضه، إنهما؛ العقل والقلب، ومايتمخض عنهما من فكر وعاطفة.
كذلك قضية الحسين وعاشوراء، بالرغم من إنها استثنائية بكل شيء، فربما جانب واحد قد ينجح في ايصال قيم كربلاء ويوم الطف الأليم، إلا أنّ وجود كل من الجانب الفكري والعاطفي جنباً بجنب هو مايجعلها عَلَماً يخفق عالياً، وعبثاً يحاول البعض فصل كل منهما عن الآخر لتضعيف هذه القضية، وهنا يأتي دور كل حسيني أو سائر على درب الشهيد وأن يتحمل مسؤولية الحفاظ على وجود وأهمية كل جانب وعدم إلغاء كفة عن أخرى، ومحاولة تغيير بعض المغالطات ودحض الآراء التي تُثار هنا وهناك في سبيل افقاد توازن قيم عاشوراء.
ولدى كل فئة وجماعة قد تجد جانباً طاغياً على الآخر، لن نقول هنا أن الجانب العاطفي وماينحدر منه من مجالس عزاء وبكاء ومواكب تخدم الزائرين، بأنها كثيرة ومبالغ فيها، فكل مايُقدم للحسين هو نزر قليل مقابل ماقدمه لنا، بل مانريد تبيانه أن هذه المظاهر تطغى على مشهد آخر الى حدٍ ما وهو المشهد الثقافي الذي من المهم جداً أن يتواجد، وكذلك الالتفات الى أن الغاية الاساسية من نهضة سبط الرسول (ص) هو أن نمثّل ونجسّد قيم الطف وملحمة الحسين الخالدة وليس فقط التركيز على المصاب الجلل.
فما أن تطأ قدماك أرض الحسين في شهري محرم وصفر، حتى تستقبلك المواكب العامرة، وعبارات من قبيل: "إشرب شاي يازاير"، "تغدى يازاير"، "ارتاح واحضر مجلس لطم يازاير"..
كل ذلك يمسح التعب عن أكتاف الوافدين والذين يذرفون العَبَرات بعد إنصاتهم لصوتٍ ولائيٍ وشجي ينعى الحسين وآله الاطهار، فيكسب كل من الخادم والزائر مالايُحصى من الثواب والأجر، ولاننكر أن هذه الشعائر هي من حفظت القضية الحسينية وأوصلت مظلومية الحسين الى كل بقاع الأرض.
إلا اننا نتمنى أن نرى في الأيام أو السنوات القادمة، مواكب ثقافية تنادي على مسامع الزوّار من قبيل: إقرأ كتاب يازاير..
وهذا النوع من الخدمة وإن كان متواجداً الى حدٍ ما ولاسيما في طريق الأربعين، إلا انه ليس بالكم والكيف المطلوب، فضلاً عن إلقاء المحاضرات فهي تنضم الى هذا الجانب احيانا، ولكن الكثير من شباب اليوم لاتستهويه ربما.
وهناك عدة نقاط في هذا المشروع الثقافي الجميل ياحبذا لو تؤخذ بعين الاعتبار، ونأمل في المستقبل القريب أن تُنفّذ، ومنها:
1_ لكل إنسان وظيفة تناسب اختصاصه، فهناك من يملك فن الطبخ، الديكور، الشعر والإلقاء، وكذلك من يمتلك قابلية الحوار ومن يمتلك ثقافة واسعة تُمكّنه من ربط مبادئ عاشوراء بالواقع المعاش، فمثل هذا الشخص عليه أن يتواجد في هذا الموكب الثقافي ليجيب كل سائل ومُستفسر.
2_ ككل التجارب الجديدة ذات العود الطري، ربما لن يلقى هذا المشروع رواجاً وشعبية، ويبقى "الصبر أبو النجاح".
3_ أن تكون هناك كتب متخصصة للطفل، حيث الألوان والرسومات التي تجذب ناظريه، وللمرأة وللشباب، وليس بالضرورة أن يكون التوزيع المجاني مقتصراً على الكتب فقط، قد تكون على شكل مجلات ومنشورات وكتيبات، ففي هذه الايام فرصة وتجمع بشري هائل يضم كل الصنوف والأعمار في أيام عاشوراء من الصعب جمعهم في ايام أخرى.
4_ نعيش في عصر الاعلام والتكنولوجيا الذكية والانترنت، ولابد من استثمار وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لهكذا برامج، وتأسيس صفحات خاصة به وحملات اعلامية واسعة، مع وضع كتب الكترونية وإمكانية تنزيلها بسهولة.
5_ أن يضم المكان حلقات حوار فكرية وثقافية ويُفتح المجال لمن يرغب في نقاش أي موضوع ولاسيما أفكار الشباب الجديدة والتي تتعلق بكل القضايا المختلفة، ووضع قواعد وآداب تناسب قدسية المناسبة والمكان والإبتعاد عن الجدل العقيم ومحاولة الخروج بحلول ورؤى.
6_ إن كل مشروع بحاجة الى دعمٍ مادي، فهنا المجتمع بحاجة الى تعلُّم ثقافة العطاء في هذا الجانب كما الجوانب الأخرى وهو يفوقها بلاشك أهمية، فقد لاتجد جائعا أو ظمآناً في هذين الشهرين، ولكن الجوع الفكري والظمأ المعرفي يبقى متفشياً نتيجة الجهل وعدم المبالاة.
7_ والأهم من كل ماذُكر، معرفة الهدف الأساسي من هذه المشاريع وهو إعلاء قيمة العلم والمعرفة وتوعية الشباب، فمن زار الحسين "عارفاً بحقه" هو الذي يبلغ مدارج الكمال، والعمل بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والثورة ضد الظلم ولكن بالشكل والمسار والطريق الصحيح، وتنمية روح المسؤولية والتفكير بدائرة أوسع من الذات، فمن أجل ذلك خرج وضحى سيد الشهداء. وأخيرا أن تكون هذه البرامج طوال العام وليس فقط لمدة شهرين.
ويبقى الحسين عِبرة وعَبرة، ولعاشوراء الكثير من الدروس والقيم بالإضافة الى الأحزان والمصائب، والشعائر طريق لكنّ الهدف والجوهر هو مبادئ وسلوكيات علينا أن ننشرها في المجتمع، والوسيلة الأنجع هي القراءة والمطالعة، وعلى أمل أن نرى حشود الزوّار تقف في طابورٍ طويل بإنتظار دورها ومايجود به الموكب من كتابٍ لذيذ يُشبع ويُغذّي الفكر، وهنيئا لمن يرسو قلبا وعقلا وجسماً على شاطئ الحسين، ويُسقي ويَشرب بإخلاص من معينه الصافي.
اضافةتعليق
التعليقات