لم تتفاجأ الطبيبة السودانية، مآب خالد، بحصول تغريدة لها على تويتر على نحو ثلاثة آلاف نقرة إعجاب عند إعلانها خبرا يقول: 'لأول مرة في تاريخ السودان ستصبح الصحة النفسية متضمنة في التأمين الصحي '.
وأتتها تعليقات كثيرة تُبارك هذا الخبر، واستفسارات كثيرة عن الموضوع في الوقت ذاته.
فحتى من لا يكترث لاحتمال التعرض للوصم الاجتماعي إن لجأ إلى العلاج النفسي، قد لا يكون قادرا على تحمّل تكاليف العلاج والاستمرار بالجلسات.
لذا يعتبر العلاج النفسي "ترفا ورفاهية" في السودان بسبب الدخل المنخفض لدى غالبية السودانيين، والذي يقابله تضخم أسعار كل السلع والخدمات بما في ذلك رسوم أطباء الصحة النفسية، كما تقول مآب ذات الخمسة والعشرين عاما.
لم نعثر على هذا الخبر المتعلق بالعلاج النفسي المجاني منشورا في وسائل الإعلام المحليّة، فأوضح مكتب المدير العام لهيئة التأمين الصحي للخرطوم، محمد الحاج حمد، سبب عدم الحديث للإعلام المحلي "لعدم اكتمال الخطة بكل أركانها ولعدم تنفيذها بعد"، كما أضاف أن مثل هذا الخبر قد لا يَلقى اهتماما محليا كبيرا.
من بين المجموعات التي كانت تسعى للوصول إلى هذه الدرجة من الاهتمام بالعلاج النفسي وتقبّله في المجتمع، كانت مبادرة الطبيبات الثلاث: مآب وآية وخديجة.
فبعد مرور مآب بتجربة شخصية وهي بعمر العشرين، أطلقت مع صديقتيها مبادرة التوعية بالأمراض النفسية وكانت البداية مع طلاب الجامعات، ثم توالت الأنشطة. وبعد خوض المجتمع ثورة ديسمبر/كانون الأول عام 2018، أصبح لهؤلاء الشابات الثلاث دور في صياغة خطة الصحة النفسية للبلد الذي غيرت فيه الثورة كثيرا من المفاهيم والأولويات.
تقوم فكرة المبادرة التي أطلقتها مآب عام 2016 على ربط المرضى بأخصائيين نفسيين متطوعين في ولايات متعددة ليقدموا خدماتهم مجانا للمرضى. وكانت غالبية الاستشارات التي وصلتهم من قبل طلاب في العشرينيات يعانون من مشاكل أسرية وعاطفية ومشاكل في التحصيل الأكاديمي، إلى جانب نساء يواجهن مشاكل مع أزواجهن.
وكانت الطبيبات الثلاث يتكلمن عبر الإذاعة وبرامج التلفزيون لتشجيع الناس على التواصل معهن والحصول على الدعم من خلال الاستشارات الهاتفية المجانية أو مقابلة الطبيب في العيادة - إن أمكن.
تقول مآب إن عدد الأخصائيين النفسيين المتطوعين وصل إلى العشرين؛ أما عدد المستفيدين من خدمات المبادرة فوصل إلى 10 آلاف شخص بين عامي 2016 و 2020.
تفسّر آية عابدين، وهي ابنة خال مآب وشريكتها في المبادرة، هذا العدد القليل من المستفيدين من خدمة مجانية بأنه نتيجة للعقلية السائدة. "بغض النظر عن درجة الوعي والدرجات العلمية، هناك عادات تحكم المجتمع. حتى لو أراد الشباب الحصول على الاستشارة فستكون ردة فعل الأهل 'ماذا سيقول الناس عنا إن عرفوا ' فالاعتقاد السائد أن زيارة المعالج النفسي قد تؤثر على مستقبل الشخص في العمل وفرصه في الزواج. لذا نجد كثيرا من فئة الشباب يتصلون بنا دون معرفة الأهل".
لا تزال القصص التي يرويها سودانيون عن الروح العالية التي غمرت ساحات الاعتصام في السودان منذ ثورة 19 ديسمبر، مستمرة لتكشف الكثير عن التغييرات التي بدأت بالفعل من قلب تلك الساحات.
تقول مآب لبي بي سي عبر واتساب: "أثناء فترة الثورة كنا ننفس عن غضبنا من خلال الصراخ في المواكب (المظاهرات) فنتخلص من الطاقة السلبية. لكن التغير بدأ بعد الثورة.. بعد الاعتقالات. أصبحنا نعرف بوجود الضرر والأذى النفسي لذا قدمنا خدماتنا المجانية".
كانت مآب مقيمة في الخرطوم في تلك الفترة، أما آية، فكانت تعيش في مدينة مَدَني.
تتذكر آية "التغيير الكبير" الذي لاحظته أثناء أيام الاعتصامات تلك.
"كان الشعب متكاتفا. أيام الاعتصام شعرنا أن المجتمع مختلف. كانت بعض الأسر تحضر معها أكل وعصائر لتوزع على الموجودين. انتشرت العيادات المتنقلة. واهتمت مبادرات بأطفال الشوارع المشردين. تغيرت أشياء كثيرة من بينها دعم الناس لبعض".
وكانت حادثة "فض اعتصام القيادة العامة" أي اقتحام قوات أمن سودانية مقر اعتصام أمام مبنى وزارة الدفاع في العاصمة الخرطوم في يونيو/حزيران 2019 منعطفا مفصليا ليس فقط على الصعيد السياسي، بل على جوانب كثيرة في حياة السودانيين، بما فيها الاهتمام بالصحة النفسية خاصة لمن شهد تلك الأحداث العنيفة.
تقول آية، وهي مختصة بمجال علم النفسي الصحي، إنها عملت مع عدة أشخاص عانوا من اضطراب ما بعد الصدمة - ومن بينهم شخص "نجا من الموت أكثر من مرة" .
"أثناء الاعتصام كانَ هو من بين حرّاس الترس على أحد مداخل ساحات الاعتصام - أي خط الدفاع الأول. فقدَ عددا من أصدقائه في إحدى الهجمات. كما مر بكثير من المواقف المؤلمة جدا من قتل واغتصاب أمام عينيه. حكى لي عن أمور رآها ولا يمكن نسيانها.. مر باضطراب ما بعد الصدمة فعملت معه ليتجاوز ذلك".
وفي تلك الفترة، تواصلت الطبيبات مع جهات متعددة كالجمعيات والمنظمات الدولية لتزويدهم بالأدوية، كما حصلن على تبرعات من السودانيين المقيمين في الخارج، وزاد عدد المتطوعين معهم.
في ساحات الاعتصام تلك، تعرفت مآب على الطبيب مهند محمد حامد، الذي كان جزءا من تجمع المهنيين السودانيين، وعضوا في لجنة الأطباء المركزية التي ظهرت أيام الاحتجاجات. وبعد حادثة فض الاعتصام، وبسبب زيادة الحاجة لتدخل الأخصائيين النفسيين لتقديم الدعم، تواصل مهند مع القائمات على المبادرة لتزويد الفريق بعلاج مجاني للمحتاجين، وتطور الأمر إلى التعاون والتفكير معا في مستقبل أفضل للرعاية النفسية في السودان.
يقول مهند، الذي أصبح من فريق إدارة هيئة التأمين الصحي بولاية الخرطوم "بفضل الصداقة التي جمعتني بالقائمات على المبادرة، صرت أنظر إلى مجال الصحة النفسية بشكل مختلف. تولد عندي اهتمام بهذا المجال. أخذتُ الخطة التي أعددتها مع مآب وبدأت في تطبيقها على مستوى صحة ولاية الخرطوم. هي ومجموعتها من شكّل ملامح وأساس الخطة".
ويوضّح مكتب محمد الحاج حمد، المدير العام لهيئة التأمين الصحي للخرطوم، أن القانون الحالي (منذ عهد النظام الماضي) المتعلق بالتأمين الصحي يشمل العلاج الجسدي والنفسي، لكنه غير مطبق ولا تلتزم به المؤسسات، لذا فالعمل الحالي متركز على إصلاح هذا القانون وتفعليه وتعديل الرسوم؛ علما أنه ملزم لكل مواطن في الخرطوم.
ويوضّح أن عملهم يغطي حالياً 78 بالمئة من المواطنين في الخرطوم، وأن الهدف هو الوصول إلى التغطية الشاملة بحلول عام 2025.
أستفسر: لماذا لا يشمل كل سكان الخرطوم؟ وكان الجواب هو الحاجة لمسح سكاني جديد للحصول على إحصائيات دقيقة لعدد سكان السودان عموما، وأيضا بسبب انحلال بعض المؤسسات التي كانت موجودة في عهد النظام السابق.
وعند تطبيق هذه الخطة الجديدة سيصبح كل ما يجب على المواطن دفعه عند الحصول على العلاج النفسي هو ربع سعر الدواء فقط. حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات