حين نعدُ جيلاً يدركُ أن المعرفة هي رأس العقل والحكمة فإننا نعَّدُ جيلاً سيصنع، يبني ثم يتألق ولأن صاحب الغدير هو الشعاع الأسمى الذي ما زلنا نطرقُ بابه لتشملنا رأفته فيفتح أُفق المعرفة لشباب سيعرفون أن أقوى الأسلحة هو سلاح العلم من مدينة العلم لا سواها ..
في ظل هذه الأوضاع الاستثنائية لجانحة كورونا والتي أوقفت عجلة العالم أجمع وجعلته في حيرة من أمره لا يعلم ما يصنع رغم كل مزاعمه في أنه بلغ الكمال في المعرفة والعلم، استمرت جمعية المودة والأزدهار للتنمية النسوية في دورها التربوي إيماناً منها أن العمل لا يقتصر على ظرف ما أو مكان ولأجل غلق الفراغ الذي قد يصنعه الظرف القائم وتحصين شبابنا من الآفات التي تحاول أن تنخر بجسد وفكره وعوالمه ..
رحلة عوالم.. رحلة مميزة بصورة مُخالفة لـ التقليدية والروتين التنموي الذي بات يغزو أغلب ما يُطرح اليوم !
فالفكر التنموي العلوي هو فكر متكامل يصنع فرداً ينطوي في داخله العالم الأكبر.. وهذا ما يجب الالتفات إليه حيث إن التنمية في منهاج أهل البيت معتدلة ومتوازنة وتهدف لـ البناء الاسلامي القويم ..
في رحلة عوالم التي أُقيمت في يوم 12 ذي الحجة 1441هـ الموافق 2/ 8/2020م وبواقع ساعتين يومياً لمدة ٣ أيام والتي قدمتها الكاتبة المتميزة ضمياء العوادي تناولت أبرز العوالم التي تُحيط بالإنسان وتصنع محور أيامه وحصيلة حياته !
فماهي هذه العوالم وماهو تأثيرها على الفرد؟
وهل الجميع لديه المعرفة بهذه العوالم؟
كان لابد من الاشارة لهذه العوالم من أجل معرفتها ثم التركيز على العالم الأسمى منها ومحاولة تعميقها في مفاصل الحياة من أجل تحقيق الأهداف العُليا ..
بدأت الرحلة بعرض مبسط لأغلب العوالم التي تُحيط بنا، فكانت المحطة الأولى عند عالم الألوان، تضمنت هذه المحطة تناول الألوان الرئيسية وخصائصها وتأثيرها الكبير على النفس والأشياء ومدى ارتباطها بجوانب معينة من حياتنا !
ثم بعدها انتقلت لبيان أهم خصائص العالم الثاني وهو عالم الحيوان، فـ الحيوانات من الكائنات الحية الأكثر أهمية على وجه الكرة الأرضية والتي لها دوراً كبيراً بعالمنا.. وقد اشتمل القرآن الكريم على الكثير من القصص والأمثلة التي تناولت بعضاً منها لبيان أهم العبر والدروس المُستوحاة منها ..
ثم كانت المحطة التالية عند عالم البناتات: الفصول الأربعة وتقلب الشخصية، الأزهار والعناية وغيرها من مميزات هذا العالم يجعلنا ندرك مدى تأثيرها الفعال علينا !
بعد هذا الشرح المبسط لهذه العوالم الثلاث قد يتبادر لذهن القارىء الكريم سؤال: ماربط هذه العوالم بموضوعنا؟!
ونقول: من الجيد أن يدرك الإنسان المؤثرات الكبرى من حياته ويعلمها من أصغرها تأثيراً عليه لأكبرها !
ومعرفة السلم التطوري لهذه العوالم وارتباطها به بصورة مباشرة وغير مباشرة ..
استمرت الرحلة بتناول هذه العوالم وكانت المحطة التالية في عالم ذات تاثير كبير جداً وله دور فعال ومحوري في حياتنا !
بل يكاد يكون السجن الذي يُقيد أغلبنا ويقعُ في شباكه، وهو عالم الأشياء ..
ماهو هذا العالم؟
هو عالم يقوم على أساس الماديات والملموسات بالحواس الخمسة ( أكل ، شرب ، نوم ... ) فالإنسان البدائي أقرب إلى عالم الأشياء من بقية العوالم ..
(فالعالم حوله كان عبارة عن أشياء يريدُ بعضها ويخشى بعضها الآخر وربما عبداً لبعض منها)
وقد تطرقت الأستاذة ضمياء لخطورة هذا العالم ومدى إنغماسنا به وكيف أنه أصبح يستحوذ على جُل اهتمامنا حتى صرنا نُعاني من طغيان ما يُسمى بعالم الأشياء؟
تبهرنا المساكن الفارهة والسيارات الفاخرة والسفن والطائرات والشوارع والأبنية والهاتف المحمول واللبس وعمليات التجميل ومختلف ألوان المظاهر المادية الخلابة والجمال الظاهري الصوري !
والنتيجة: أننا صرنا نُعاني من مُشكلة الإفراط في تقدير الأشياء ما يجعل أحكامنا واهتماماتنا تتحول من نَوعية إلى كَمية فنحن :
نهتم بعدد الصفحات التي قرأناها على حساب المحتوى ونزن الأشخاص على حساب ما يمتلكونه من أموال ومظاهر دون أن نهتم لـ أفكارهم وأخلاقهم !
وقد أشارت إلى أن حل هذه المُشكلة يكمن في تطبيق وترسيخ قاعدة الاعتدال والتوازن فلا افراط ولا تفريط هو السبيل الأمثل للنجاة ..
بعدها تطرقت العوادي لعالم يعتبر أرقى من عالم الأشياء لكنه سلاحُ ذو حدين !
فعالم الأشخاص: هو حصيلة العلاقات الإنسانية والاتصالات والقوانين التي تُنظم حياة الأشخاص الذين يُكونَّون هذا المجتمع فيما بينهم ..
وهذا العالم أكثر تميزاً ورُقياً من العوالم الماضية لماذا؟
لأنَّ فيه تبدأ مادة الإحساس بالنمو عنده وتصبح المتحكمة الأولى به، فمتى ما تعلق الإنسان بإنسانٍ آخر فهو لا يرى منه إلّا حسناته وخيره !
ولكن أين تكمن خطورة هذا العالم؟
تكمن خطورته عندما نُقدس الأشخاص لدرجة ترفعهم عن البشرية وتضعهم في درجة العبودية وهُنا تحدث المُصيبة الكبرى !
كيف؟
لأننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص نُحرم من الفكرة الجيدة لأنها جاءت من عدو ونتورط في فكرة سخيفة طالما جاءت من صديق وهكذا !
وما لم نفصل الفكرة عن الشخص فلن نستفيد من الأفكار ولن نعرف قدر الناس ..
وقد أشارت العوادي لألتفاته جميلة قد اختصرت بها رحلة العوالم الثلاث ودرجات أهميتها حين قالت:
نُولد نحن والعوالم الثلاث لا تعني لنا شيئًا ثم :
نبدأ بالتعرف إلى عالم الأشياء بداية بثدي أُمنا الذي نرضع منه وإصبعنا الذي نضعه في فمنا وأظافرنا التي قد نجرح بها خدنا دون معرفة وقصد وفمنا المفتوح الذي نضع داخله أي شيء.. بعدها ننتقل لـ العالم الثاني وهو عالم الأشخاص وتبدأ الحكاية من وجة أُمنا الذي يمثل لنا مصدر الغذاء والأمان ووجه والدنا وإخواننا وهكذا!
فأين نقف نحن الآن ومن المُتحكم الفعلي بنا؟
بعدها كانت الإنطلاقة عند العالم الأهم والأكثرُ تركيزاً وأهمية لكنه يكاد يكون مُغيباً عن الأغلب وهو عالم الأفكار ..
أشارت العوادي إلى أن هذا العالم هو الذي يترفع عن المحسوسات والملموسات والماديات ويتعامل مع الأفكار والقيم والمجردات بصورة لا تتأثر بـ بُعدها المادي أو الشخصي..
إن الإنتقال لهذا العالم ليس سهلاً كما قد يتبادر إلى الأذهان من الوهلة الأولى فليس سهلاً أن نكسر قيود العبودية لـ عالم الأشياء والأشخاص وننتقل إلى الأسمى وهو عالم الأفكار فالأمر يحتاج إلى تربية ورعاية وتنمية تبدأ من النشأة الأولى في البيت ثم تنتقل إلى المدارس والجامعات ثم المحطة الأخيرة إلى: المُجتمع!
فالفكرة هي لحظة إشراق تتحول إلى قوة كامنة قادرة على تغيير مجتمع بأكمله !
الافتقار للأفكار البنَّاءة، إلى الفكر الذي يجعل من شخص و٧٠ فرداً يثور على عشرات الآلاف من الجهلة والفسقة هو السبب في تردي أحوال خير أُمة وجعلها تتراجع للوراء وليس السبب هو نقص الوسائل الماديات كما قد يتصور إلينا !
وفي نهاية هذه المحطة طرحت العوادي سؤالاً كان الهدف منه الوصول لـ الغاية المطلوبة من هذه الرحلة؟
وهو إلى أين نريدُ الوصول؟ وكيف يمكننا الأرتقاء لعالم الأفكار ثم تحصينه من الشوائب والسلبيات التي قد تجعله سلاحاً فتاكاً على الفرد منا !
ماهو القانون الذي يحكم هذا العالم ويحافظ عليه في مساره الصحيح؟!
القانون هو: عالم منهج الغدير
هذا العالم هو الذي سيُحطم قيود العوالم الثلاثة وينتقل إلى العالم الأسمى، العالم الذي سيقود العوالم الثلاثة ويجعلها وسيلة لا غاية !
وهو عالم (القِيَّم): فعالم الأفكار لابد أن يكون تحت مظلة هذه القِيَّم وفي إطارها بل أن يخدم هذه القِيم لأنَّ عالم الأفكار إن تمَّرد على عالم القيِم لكانت هذه الأفكار هي المعول الهدام للإنسانية والأمم والحضارات بل وحتى العوائل..
وقد أوضحَّت العوادي الطيف الواسع الذي جاء به صاحب الغدير من القِيم والأخلاق الحميدة: كالصدق والأمانة والتعاون على الخير وحب الآخرين ومساعدة المحتاجين والمودة والاهتمام بالناس وتفقُّد الضعفاء وإرساء العدالة والسعي في قضاء حوائج المؤمنين وما إلى ذلك إنما جاء ليحارب القِيم الطالحة من حسد، أنانية، نفاق، كذب، سوء ظن، إخلاف الوعد، رشوة، ظُلم وغيرها من القيم التي عادت بمجتمعاتنا إلى الأسوء..
فتنمية القيم الإنسانيّة لدينا وجعلها أولى الأولويات لبناء مجتمعات قوية ومتماسكة، قادرة على تخطِّي العقبات المختلفة والانطلاق نحو المجد والرفعة ولكن هذه التنمية تحتاج لـ :
رغبة ذاتية ومُجاهدة كبيرة للنفس وتزكية لها والتأمل الذي يساعد على إزالة آثار وبقايا القيم السلبية وإعادة بناء شخصية الإنسان بعيداً عن التعصب والعناد والجاهلية ..
كما فعل رسول الله صلوات الله عليه من أجل اقتلاع هذه القيم السلبية حين نَصَّب من يُمثل كل القيِم، ثم أمر بأتباعه وإطاعته !
لماذا؟!
من أجل صناعة أُمة قادرة على أن تكون خير أُمة!
إن معرفة مظاهر شخصية الإمام عليّ (عليه السّلام) في الجانب الإيمانيّ وفي الجانب السلوكيّ والأخلاقيّ وفي الجانب العلميّ وتنميتها وإحياءها في النفس والمجتمع كفيلة بصنع جيلاً علوياً قيادياً تحكمه القيَّم قادراً على النهوض ..
وقد أُختتمت هذه الرحلة ببيان أهم مظاهر منهج الغدير وصاحبه وكيفية ترسيخها في النفوس وكيف يصبح العالم المُتحكم بنا هو عالم القيَّم الذي جاء به المولى الأمير..
اضافةتعليق
التعليقات