دارت في ذهن ماثيو ذكريات لم تحدث أبداً، وذلك نتيجة مرض غير معتاد أصابه. الغريب أن هذه الذكريات تبدو في ذهنه حية وواضحة كأنها أحداث وقعت بالفعل. وقد كان عليه أن يتعلم كيف يتعايش مع ماض هو في الحقيقة غير أكيد تماماً كما هو شأن المستقبل.
بعد عدة شهور من عملية أجريت له في الدماغ، عاد ماثيو إلى العمل كمبرمج للكمبيوتر. ولقد أدرك أن تلك العودة بمثابة تحد، وكان عليه أن يشرح لرئيسه في العمل أنه يعيش مع إصابة دماغية دائمة.
الذي حدث في الاجتماع هو أن أصحاب العمل سألوا: "كيف يمكننا مساعدتك؟ كيف يمكننا إعادتك لتصبح قادراً على العمل من جديد؟ لكن الذي استقر في ذهني في اليوم التالي كان أنهم سيقومون بطردي من العمل، وأنهم لن يعيدوني بأي وسيلة للعمل من جديد".
ما استقر في ذاكرته كان شديد الوضوح كما يقول، ومقنعا كأي شيء حدث فعلاً. لكن ذلك كان غير صحيح على الإطلاق. اليوم، يعرف ماثيو أنها إحدى العلامات الأولى على إصابته بما يعرف باسم "اضطراب الذاكرة" نتيجة لإصابته الدماغية.
اضطراب الذاكرة لا يعني أن تكذب أو أن تخادع، ولكنه يعني وجود مشاكل جوهرية في الطريقة التي يتعامل بها الدماغ مع الذكريات بشكل يجعل المريض يبذل مجهوداً كبيراً لكي يقول شيئاً حقيقياً مستقى من شيء متخيل يتظاهر به عقله الباطن.
كان اكتشاف ذلك ضربة مؤلمة لماثيو (الذي نستخدم له اسماً مستعاراً احتراماً لخصوصيته). ويقول: "لقد كنت خائفاً بالفعل، فقد اعتقدت أنني لا استطيع الثقة بما حدث فعلاً".
المعضلة التي يعيشها، رغم أنها شاذة نوعاً ما، يمكن أن تساعدنا جميعاً على فهم مواطن الضعف في ذاكرتنا، والطرق التي تبني بها عقولنا روايتها للحقيقة.
اليوم يعمل ماثيو متطوعاً في مؤسسة "هيدواي" الخيرية شرقي لندن، والتي تساعد المصابين بعاهات دماغية
في العادة تنشأ الذكريات غير الحقيقية عن الفكرة المسبقة للطريقة التي يقع بها الحدث. فلدى عودته للعمل على سبيل المثال، كان يساوره القلق من احتمال عدم تعاطف رؤسائه مع وضعه الصحي الجديد.
ويقول ماثيو: "كنت أعرف أن رؤسائي في العمل هم من رجال الأعمال القساة المتشددين في العمل. وهكذا قام دماغي بوضعهم في صندوق محدد وتوقع أن رد فعلهم سيكون بطريقة معينة".
ويعود السبب في عدم تذكر تفاصيل الاجتماع إلى فقدانه الذاكرة وهكذا قام دماغه بملء ذلك الفراغ لكي يتواءم مع تلك التوقعات.
وبطريقة ما يمكن النظر إلى تلك العملية البناءة على أنها تهويل وتضخيم للوسائل التي نتذكرها جميعاً. فكلما حاولنا التفاعل مع الماضي، يقوم الدماغ بإعادة تركيب الحدث، مختاراً التفاصيل التي يبدو من المرجح أنها وقعت.
ويقول ماثيو: "خلف الكواليس يقوم الدماغ بعمل أشياء كثيرة في انتقاء وفحص المعلومات. ويفحص إلى أي مدى ينبغي أن تكون هذه المعلومات قوية، ومن ثم يقوم بإهمال المعلومات غير ذات العلاقة".
لا أحد منا يقوم بهذه العملية بدقة كاملة. بإمكاننا تخزين معلومات خاطئة في الذهن، مما ينتج عنه "ذكريات مزيفة" والتي نتذكر فيها تفاصيل لم تحدث أبداً. في الحقيقة، حتى بالنسبة للعقول السليمة يعتبر غرس الذكريات المزيفة أمراً سهلا.
ففي إحدى التجارب، قام علماء نفس من نيوزيلندا وكندا بعرض صور على مرضاهم توهمهم بأنهم كانوا يحلقون في مناطيد في الهواء. وعندما سئلوا عن الصورة، روى 50 في المئة منهم قصة عن الحدث معتقدين ببراءة أنه وقع بالفعل.
رغم ذلك فنحن في الغالب على صواب فيما يتعلق بالتفاصيل المهمة، لكن على ضوء إصابة ماثيو الدماغية، فإن التدقيق في الحقيقة ينحرف ولا يستقيم بحيث أن أعداداً أكبر من الذكريات باتت مزيفة، مع أن حال ماثيو ليست أشد الحالات ندرة التي صادفها بيل.
ويحتفظ ماثيو الآن بمفكرة ليستطيع تسجيل تفاصيل الحقائق، مثل أين كان، وماذا أكل، وماذا قال الناس، ليشكل أرضية يستطيع أن يبني عليها صورة لأحداث اليوم. حتى رغم ذلك، مازال يجد تلك الذكريات المزيفة تتسلل إلى عقله.
يقول بن غراهام، زميل ماثيو في مركز هيدواي: "غالباً ما يقع اضطراب الذاكرة عندما يكون ماثيو قلقاً تماماً، وهذه الاضطرابات تأخذ شكل الشيء الذي يشعر حياله بالقلق".
وعندما يقضيان وقتاً مع بعضهما البعض، عادة ما يدقق ماثيو صحة الأشياء مع غراهام. تلك مهمة دقيقة وحساسة، ويعي غراهام أنه ربما رأى عرضاً بذوراً لذكريات زائفة في الطريقة التي يعبر بها عن شيء ما.
ويقول في هذا السياق: "بإمكانك زرع فكرة ما في ذهن ماثيو، وهو أمر ينبغي أن أكون حذراً بشأنه".
رغم هذه الصعوبات المستمرة، يزعم ماثيو أنه ليس فقدان أو اضطراب الذاكرة ما يضايقه بقدر التعب المستمر الذي يشعر به في سنوات ما بعد إجراء العملية الجراحية لدماغه.
ويقول ماثيو: "إذا تلاشى التعب فسأشعر بالسعادة. ومن ثم استطيع التأقلم مع فقد الذاكرة".
ومع عدم التأكد من تشخيصه حتى الآن، فإن عليه أن يتعلم كيف يتقبل النعم البسيطة المتوفرة في الحياة.
وعندما يشعر بالغضب، يقوم بامتاع نفسه بامتطاء دراجته والسير بها مسافات طويلة.
وعلى الرغم من رغبته في أن يعود إلى التفرغ لبرمجة الكمبيوتر، فإنه تعلم ألا يعول على المستقبل، وأن يستمتع باللحظة التي يعيشها في الحاضر، ويقول: "الحاضر لا بأس به، فهو كل ما تملك".
اضافةتعليق
التعليقات