أن ترى شيئاً لكن لا تميّز ماهيّته، وتسمع شيئاً لكن لا تفهمه؛ هذا هو باختصار مرض العَمَه أو العمى الفكري عن الإدراك، تلك الحلقة الضائعة بين الحواس وإدراك المعلومات القادمة عن طريقها. لكن تخيل أن يكون مريضٌ مصاباً بشلل في أطرافه، ولا يدرك إصابته أو يرفضها. يُسمى ذلك عَمَه العاهة، أو مرض الجهل بالمرض، وهو أن يعاني الشخص عجزاً دون أن يُدرك وجودَه. اختار هذا الاسم عالمُ الأعصاب جوزيف بابنسكي في العام 1914، بعد متابعة المرضى الذين تعرضوا لسكتات وجلطات أدت إلى تعطيل وظائف أعضاء مختلفة في الجسم. ومرض العَمَه، في التعريف الطبي، هو إصابة بالباحة البصرية الثانوية في الفص القفوي تُفقد حاسة البصر قدرتها على الإبصار أي الإدراك، ويفقد السمع غايته؛ بسبب إصابة في منطقة بالدماغ تسمى باحة فيرنيكه.
الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالعَمه
في عقلنا الباطن، نتصور أنفسنا باستمرار؛ فمثلاً حين نُصاب بحرق الشمس، نقوم بإعادة تشكيل تصورنا عن شكلنا، لتقبّل التغيّر الذي سنراه حين ننظر في المرآة. وعندما نتعلم مهارة جديدة نضيف ذلك إلى تصوّرنا عن أنفسنا؛ فنشعر بكفاءاتنا الجديدة. لكن عملية التصور والتغيير فيها معقدة نوعاً ما، تتطلب نشاط الفص الجبهي من المخ؛ لتنظيم المعلومات الجديدة، وتذكّر التصوّر القديم عن النفس ثم تعديله. أظهرت الدراسات التي أُجريت حول عمل الدماغ في معالجة التصوّرات، أن منطقة الفص الجبهي بالمخ يمكن أن تُصاب بالضرر؛ نتيجة الإصابة بالشيزوفرينيا (فصام الشخصية)، أو الاضطرابات ثنائية القطب، وبعض الأمراض الأخرى مثل العته، أو السكتة الدماغية.
كذلك، عندما تنخفض كفاءة عمل الفص الجبهي إلى أقل من 100%؛ يمكن أن يخسر المُصاب بشكل كامل أو جزئي قدرات تقبّله التغييرات الحاصلة في تصوّره حول نفسه. ومن دون هذه القدرة، يعلق المُصاب في الصورة القديمة عن نفسه المتشكلة قبل الإصابة. ويصبح من الصعب تقبّل أي تغيير عليها، حتى لو حاول الأحبّاء من العائلة والأصدقاء إقناع المصاب بذلك، إلا أنه يظن أنهم يكذبون عليه ولايأخذ كلامهم على محمل الجد. ومن الجدير بالذكر، أن عَمَه العاهة يُصيب 50% من المصابين بالشيزوفرينيا (انفصام الشخصية)، و40% من المصابين بالاضطراب ثنائي القطب. أيضاً، يمكن أن يُرافق أمراضاً أخرى مثل الاكتئاب الحاد.
الفصامي الذي اقتحم الكونغرس لحمايته من آكلي البشر
في 24 يوليو/تموز 1998، اقتحم مواطن أميركي يُدعى راسل وستن مقر الكونغرس الأميركي في أثناء عقد جلسته؛ تصدّى لمحاولته حارسان، لكنه أطلق النار عليهما؛ فتوفي شخصان وقُبِضَ عليه. وفي يوم المحاكمة، سُئِلَ وستن عن الحادثة فاعترف بها كاملةً، وعندما سُئِلَ عن الأسباب التي دعته للقيام بذلك؛ أجاب واثقاً بأنه هاجم الكونغرس ليحمي بلاده من هجوم آكلي البشر! وبحسب تقرير الطبيب النفسي، تبيّن أن وستن مصاب بمرض الفصام، وجرى التواصل مع محاميه الذي عرض أن يقوم بالدفاع عنه بحجة مرضه، لكن وستن أنكر إصابته بالمرض ورفضَ كلياً أن يجري الدفاع عنه على أنه مريض.
تمثل هذه القصة مثالاً مباشراً وحياً للجهل بالمرض. ومن الأمثلة التي تُطرَح في السياق نفسه: مصابٌ بشلل طرف علوي ينكر إصابته، ويطلب منه الطبيب تحريك يده؛ فيعتذر عن ذلك بحجة عدم رغبته. ومهما حاول الطبيب إيقاعه واستدراجه للاعتراف بإصابته؛ فإنه يكذب على نفسه ويستمر في الإنكار.
ما هي الآثار التي يخلّفها المرض؟
لعل أخطر ما يميّز عَمَه العاهة، أنه يمنع المصاب من الحصول على العلاج؛ حتى إن أولئك القليلين الذين يتقبلون زيارة الطبيب والحصول على العلاج، قد يتوقفون عن استكماله بشكل مفاجئ، تبعاً لإصابتهم بهذا المرض الذي يوهمهم بأنهم ليسوا مرضى! وتتأثر كذلك علاقاتهم مع دوائر معارفهم من العائلة والأصدقاء، الذين يحاولون توعيتهم ومساعدتهم على التخلص من المرض؛ فيُقابلونهم بالتكذيب والادعاء بالجهل، وسرعان ما يُولّد لديهم ذلك شعوراً بالغضب والانزعاج، ويجعل محيطهم متوتراً مليئاً بالمشكلات. وقد يصل الأمر في الحالات المرتبطة بالاضطرابات النفسية، إلى محاولاتهم إيذاء أنفسهم والآخرين كما حدث مع راسل وستن.
كيف يمكن مساعدة المريض؟
بما أن عَمَه العاهة من أعقد الأمراض غير المصنفة بين العقلية والنفسية والعصبية؛ فإن أسهل طريقة للتعامل مع المصاب هي الاعتماد على الطبيب، الذي يفهم احتياجات المريض أكثر من أي شخص. الطبيب النفسي زافير أمادور أصدر عدة توصيات للتعامل الأمثل مع هذه الحالة، عُرِفَت بتقنية LEAP التي تشمل:
الاستماع إلى المريض Listening.
إظهار التعاطف مع المريض Empathizing.
موافقة المريض على ما يقول Agreeing.
مشاركة المريض Partnering.
إذاً، ما هو العلاج؟
للأسف، لا يوجد علاج نهائي لهذا المرض، إنها الحقيقة المُرّة حول الكثير من الأمراض، التي غالباً ما يجري استدراكها بالطرق نفسها. لكن، يوجد ما يُعرف بالاختبار الحراري الانعكاسي، الذي يتضمن سكب ماء شديد البرودة. تجذب المياه الباردة الانتباه الكامل لجهة معينة؛ فتعمل أجهزة التوازن مؤقتاً بإحداث الإدراك، ويحسّن تدريجياً من وعي المصاب بإصابته العصبية.
أما عن جلسات العلاج المعرفي السلوكي، فتقوم على تعليم المصاب التكيف مع أطرافه غير المستجيبة، وتُعَدّ الخيار الثاني للتعامل مع الأثر الذي يخلفه المرض بخصوص الإنكار، والاستمرار في الإنكار، وفشل التواصل مع أي شخص حوله يخالف ذلك. أيضاً، يستخدم المعالجون تنبؤات المريض بخصوص الاستجابة لعمل معين قبل القيام به، ثم يقوم المعالج بمقارنتها بالنتائج الفعلية لتطوير بصيرته. وتكمن صعوبة العلاج في المشكلة الأساسية للمرض، وهي أن المريض غير مقتنع بمعاناته أي مرض بالأساس؛ ومن ثم لا يبحث عن علاج، ولا يشعر بأهمية أخذه على محمل الجد، وهنا مكمن التحدي. حسب عربي بوست.
اضافةتعليق
التعليقات