يُعد دعاء الندبة من الأدعية المهمة جداً لما لها من أثرٍ عميق في توثيقِ العلاقة بولي عصرنا وإمام زماننا(عجل الله تعالى فرجه)، ولما فيه من ثمارٍ كترسيخ معرفتنا العقائدية بما نؤمن به وإيصالنا إلى فهم أوسع للسنن، وما نتبناه من منهج في حياتنا.
إذ نجد أن من الفقرات المعرفية التي تُبين أسباب اصطفاء الحجج الإلهيين والأولياء بشكل عام، والأنبياء بشكل خاص هي هذه الفقرات التي نقول فيها: [...بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنيا الدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِها وَزِبْرجِها، فَشَرَطُوا لَكَ ذلِكَ وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الوَفاءَ بِهِ، فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ العَلِيَّ، ...](١).
فهي تُعطينا مفتاح جميل لفتحِ بابٍ لبلوغ مرتبة جليلة لمن أراد السير على خطى الأولياء صلوات الله عليهم الذين اصطفاهم تعالى لنفسه، إذ تُصرح هذه الفقرة بوجود مقدمة/ شرط هو [الزهد]، الذي تحقق فيهم على المستوى العقدي بالامتثال القلبي، وعلى المستوى العملي بالوفاء به.
وتصور لنا كيف إن هذا الشرط [الزُّهْدَ] سهل وبسيط على من عرف حقيقة الدنيا التي عبرت عنها [بالدُّنيا الدَّنِيَّةِ]، تلك الحقيقة الثابتة في وصفها، والتي تَجعل قلب الإنسان المُبصر غير متعلق بأي جمال وكمال ونوال يُمكن تَحصيلهُ، وكل جاه ومال ومُكنة يناله فيها إن كان في الدنيا فقط وفقط، وليس وراء ذلك شيء، بل هو سيزهد فيها.
كمن يأتي في الآخرة ويقال له: "لقد استوفيت كل أجرك، ونلت كل جزائك في الدنيا، وليس لك في الآخرة شيئاً"، فكم سيكون الإنسان قد بخس نفسه إن كان من هذا الصنف؟! كما يُذكَر في القرآن الكريم بقوله تعالى: {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (البقرة :١٠٢).
فالزهد هنا بمعنى أن يكون مُحفزه لتصبح النفس ذات هَمّ وهِمَة وسعي عال، وطموح أكبر من الاكتفاء بالانشغال بحيازةٍ شيء من الدنيا؛ لأنها تبقى لا شيء بعينهِ التي ترى ما وراء الدنيا من عوالم أوسع، وحياة أبقى، وبالتالي يتطلب الأمر تزود أكثر.
عندها سيكون سعيه/حركته مقبولة كما ورد [فَقَبِلْتَهُمْ]، لأن فيها إقبالا حقيقيا على الوجهة التي عليه أن يوجه وجهه نحوها، والمقصد الذي لأجله يخطو كل خطوة؛ فيبلغ بذلك التقريب كما نقرأ [وَقَرَّبْتَهُمْ]، ليكون بسعيهِ وإلى نوال كماله الحقيقي أقرب، وبعد أن يُقبِل ويَزداد هِمة في التَقرب؛ فإنه سيحظى بأن الله تعالى هو يُقبِل عليه بوجهه الكريم فيُكرمه ويَجود عليه، كما نقرأ [وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ العَلِيَّ].
أي بعد أن كان يُريد أن يَسمع هدى ورشد مولاه؛ الله تعالى هو يريده أن يكون ذاكراً ومرشداً؛ فيُسمعه الذكر، ولكن ليس أي ذكر بل الذكر العلي، فيَجعله آية مُذكرة، ودليل يَدل الخلق عليه، فيُصبح تجلي لنور ربه وهدايته وذكره.
وخلاصة هذه الوقفة: إن من يزهد بالأدنى، يرتقي ويُزود بما هو أعلى، فيبلغ القبول وينال القرب، فيُصبح من الصفوة الأخيار، الذين قد اختارهم الله تعالى بعلمه، لينشروا الخير والهدى والنور، وهي فرصة متاحة للجميع، فلنكن من أهل الإغتنام.
______
اضافةتعليق
التعليقات