لازلت أتذكر كل اللحظات التي مررت بها وسمعت فيها جملة (الفات مات)، كل موقف عشته بحجم مرارته قالوا عنه مات لمجرد أنه مضى...
هل حقا ما يموت في داخلنا لا يترك أثرا؟، أود أن أقول بأن حقيقة ما بعد الموت صادمة أكثر من فكرة الموت نفسها.
فالأحداث بعد موتها تبدأ بالتعفن لأيام طويلة، تتجزأ وتفوح منها رائحة نتنة، هل تساءلنا يوما لماذا يتقيأ البعض بعد كل وجع نفسي يمرون به وخصوصا من يعانون من متلازمة القولون العصبي؟
كل ذلك بسبب الرائحة النتنة التي تفوح من الجثة المتعفنة في الذاكرة والتي تثير الغثيان وتسبب حالة من التقيؤ.
أمّا بعد مرحلة التعفن التي قد تمتد لشهور تبدأ مرحلة التحلل، المرحلة التي تتحلل فيها كل الجزئيات والتفاصيل الجانبية لتصبح مجرد رماد، ويبقى أصل الموقف فقط... أو بالأحرى الهيكل الحقيقي للحدث!
وما يبقى في الذاكرة إلى الأبد ولا يتحلل هو أصلب شيء في الموقف، تخيلوا كم من الهياكل العظمية للمواقف مدفونة في عقولنا وقلوبنا...
بعد كل هذه المراحل التي مررنا بها وبعد كل هذه الهياكل التي تعيش في داخلنا هل نستطيع ان نقول بكل بساطة أن كل ما فات مات؟
كل الذكريات السيئة... المواقف الحزينة، الصور الموجعة هل ماتت حقا؟
ذلك الأب الذي يقول بأن الفات مات هل فعلا يعتقد بأن اللحظة التي ضرب فيها زوجته أمام أطفاله قد ماتت حقا إن أطفاله كبروا والوقت قد مر؟
في الحقيقة تعفنت وتحللت في عقول الاطفال وبقيت هياكلها مدفونة في قاع وجودهم، وبين لحظة وأخرى يستحضرونها وتبدأ أشباح المواقف تتجول في عقولهم، وتسبب لهم خللا نفسيا تؤثر على حياتهم المستقبلية وتسبب لهم مشاكل كبيرة خصوصا في علاقتهم الاجتماعية مع الناس.
ألا يتساءل هذا الأب كيف ستكون علاقة ولده مع زوجته المستقبلية وهو شاهد والده يعنف والدته امام عينه؟؟
هذه الاحداث تكبر في الانسان وتكوّن له الكثير من العقد النفسية التي يصعب فكها مع تقدم العمر، وغالبا أسبابها تعود الى مرحلة الطفولة والى تعامل الأهل والأقارب.
بالرغم من أننا نجد امير المؤمنين يقول في وصيته لولده الحسن عليه السلام: "لا يكن أهلك أشقى الخلق بك"!.
ولكن مع كل هذه التوصيات والارشادات كم طفل نجده اليوم وقد تعرض الى التنمر وسوء المعاملة من قبل عائلته او اقاربه او اصدقاءه ودفن المواقف في عقله وتحولت جميعها الى هياكل عظمية تخرج اشباحها ليلا وتُسيّر على مخيلته وتترك اثرا على سلوكه، بالرغم من انه كبر وقد تجاوز الثلاثين عاما؟!
وكم من زوجة تعرضت الى سوء معاملة الزوج والى التعنيف اللفظي والجسدي، ودفنت في قلبها موقف بعد موقف حتى بات قلبها مقبرة مهجورة لا يتسكع فيها الاّ أشباح المواقف!
وحتى نكون منصفين أكثر فالضرر لا يأتي من الغريب دائما، ربما يأتي من أقرب الناس اليك او حتى من نفسك... هل فكرت كم مرة ضررت نفسك فيها ودفنت موقفا او فكرة سيئة دون أن تشعر؟، وفجأة انصدمت ووجدت جثتها تحللت في عقلك وفاح منها رائحة العفن!
فالأمر ذاته مع الأفكار السلبية والقيم الخاطئة التي يتلاقاها الانسان اذ انها لا تموت بمجرد ان الوقت قد مضى عليها!
فحتى القيم الخاطئة والأفكار المنحرفة لا تمر مرور الكرام على عقولنا بل تغرس جثثها في أدمغتنا، وبين فينة وأخرى تخرج اشباحها تتجول في دهاليز افكارنا وتثير الشكوك في معتقداتنا!
لهذا السبب من المهم جدا ان نركز على سلامة المادة التي نتلقاها نحن وأطفالنا، سواء كانت مادة ثقافية او دينية او اجتماعية ونتأكد من صحة المعلومات التي تحويها والأفكار التي تتبناها، لأن كل فكرة خاطئة تزرع في العقول يصبح من الصعب جدا انتزاعها او استبدالها.
فمثلما يحاسب الانسان على الضرر النفسي والجسدي الذي يلحقه بالناس كذلك يحاسب على الضرر الذي يلحقه بنفسه أيضا..
فبعد كل هذا الكلام هل صدقتم الان بأن كل المواقف التي تفوت لا تموت ابدا!، بل تبقى وتترك اثرا عميقا في نفوسنا وعقولنا، لذا من المهم جدا ان نكون مسؤولين عن كل التصرفات التي تبدر منا والكلمات التي تخرج منا، ونجعل الله نصب عينينا ونعرف حجم الضرر الذي من الممكن ان نسببه لغيرنا او لأنفسنا ونستدرك حساب الله لنا على هذا الضرر الذي لحقناه بالناس او النفس، فحقوق الناس لا تضيع عند الله حتى وان كانوا من افراد عائلتنا، سواء زوجة او طفل او أم اوصديق...الخ.
لأن الله تعالى يعلم جيدا بأن ما فات لم يمت أبدا، وعلم بأن كل ضرر يلحق بالناس تضل اثاره تظهر عليه بين شكل واخر، أحيانا على سلوكه وأحيانا في علاقاته وأحيانا أخرى على نفسيته وصحته!
لذا أكد الامام زين العابدين (عليه السلام) على احترام حقوق الناس فردا فردا واحترام حقوق الذات، وعدم التعدي عليها وجزأها الى خمسين حق وفصلها تفصيلا، اليس هذا كافيا لتبيان أهمية مراعاة الحقوق واحترامها سواء (الحقوق النفسية او الجسدية او الروحية او الملكية وغيرها)؟!
فوقع الكلمة كبير على روح الانسان، ومن خلال الآيات القرآنية والروايات الشريفة نلاحظ كم ان الدين يخاف على روح الانسان ويراعي مشاعره ونفسه لأبعد حد ممكن ويردع كل انسان يلحق الاذى بأخيه المؤمن سواء كان اذى نفسي جسدي او غير ذلك، اذ يقول عز وجل في كتابه الكريم: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا).
فلا شيء يموت عند الله كلّ بحسابه وكتابه..
اضافةتعليق
التعليقات