لا شك إن ما تغرسه أمهاتنا في أعماقنا يضلّ راسخا مهما امتدت بنا الأيام والأعوام، سواء كان ذلك الغرس إيجابيا أو سلبيا، على نحو الأفكار أو الممارسات، ونظل - رغم خصوصية شخصياتنا وتفرّدنا - نعكس صورا من أمهاتنا.
هذا ما ورد في خاطري عندما عثرتُ على قصاصات أمي وأنا اتصفّح كتاب مفاتيح الجنان لقراءة الأعمال الخاصة بشهر رجب.
كانت تلك القصاصات مدونات صغيرة كتبتُها لأمي تتضمن الأعمال والأذكار الخاصة بشهر رجب، فقد كانت تحسن القراءة ولكن يصعب عليها تصفح الكتاب وإيجاد ما تريد قراءته من أعمال؛ لذا سهّلت عليها المهمة وكتبت لها الأعمال بخط كبير واضح في قصاصات صغيرة لتقرأها على راحتها.
وهكذا تعلّمتُ منها أهمية الشهور والأيام، والمواسم العبادية التي اتحفنا الله بها، ووضعها هدية ثمينة بين أيدينا، ودعانا لنستثمرها في بناء ذواتنا، ولنتخذها سلما لعروج أرواحنا ورقيّها، وهذا من رحمة الله على عباده.
شهر رجب الحرام على رأس تلك المواسم التي خصّ الله بها أمة حبيبه المصطفى؛ شهر كانت الجاهلية تعظّمه، ثم جاء الإسلام ليزيده حرمة وتعظيما، وسُمّي الأصبّ لأن الله يصُّب فيه الرحمة على عباده.
في هذا الشهر الحرام دعانا الله للدخول إلى حرمه؛ فعلينا قبل أن نلبّي الدعوة أن نستعدّ لها، أن نهيأَ أنفسنا لدخول ذلك الحرم المقدّس بتطهير القلوب، وتهذيب النيّات لنكون لائقين بتلك الضيافة الجليلة، والجلوس على مائدة الرحمن الزاخرة بالألطاف الإلهية.
فمن مواهب الله في هذا الشهر إن الله تعالى يضاعف فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، وإن صومه يستوجب رضوان الله الأكبر، وهو الحبل الذي يوصلنا إلى رضوان الله تعالى كما في حديث الداعي الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن الله تعالى نصب في السماء السابعة ملكا يقال له الداعي، فإذا دخل شهر رجب ينادي ذلك الملك كل ليلة منه إلى الصباح: طوبى للذاكرين، طوبى للطائعين، ويقول الله تعالى: أنا جليس من جالسني، ومطيع من أطاعني، وغافر من استغفرني، الشهر شهري، والعبد عبدي، والرحمة رحمتي، فمن دعاني في هذا الشهر أجبته، ومن سئلني أعطيته ومن استهداني هديته، وجعلت هذا الشهر حبلا بيني وبين عبادي، فمن اعتصم به وصل إليّ).
هذه الدعوة المكلّلة بالبشارات المفرحة للقلوب يضعها الله بين أيدينا مجانا ليقرّبنا إليه، إنها سحائب الرحمة التي تغمرنا بالغيث خلال ليالي وأيام شهر نسبه الله لذاته المقدسة (الشهر شهري).
وهو شهر استثنائي بين شهور العام، ليس فقط بما يحمله من مواهب إلهية، بل وبما اختصّ به من مناسبات دينية قلّما تجتمع في شهر واحد؛ فقد اختاره الله ليكون الوعاء الزماني لولادة بطل الإسلام الأوحد، نفْس الرسول صلى الله عليه وحبيبه وخليفته على أمته، كما اختار الكعبة لتكون الوعاء المكاني والمهد المبارك لتلك الولادة الميمونة.
وفيه ليلة وصفها الإمام الجواد (عليه السلام): (هي خير للنّاس ممّا طلعت عليه الشّمس).
ففي صبيحتها المشرقة صافحت السماء الأرض بيد اليمن والبركة، وقبّلتها عبر جبين محمد، ليكون خاتم انبياء الله بعد أن كان سيد خلقه أجمعين، وازدانت الأرض مرة أخرى بالوحي الإلهي.
إن الحديث عن عظمة شهر رجب يطول، ويتّسع باتساع عطايا الله فيه، ولا تسع هذه السطور وصف فضله وعظمته.
لقد رحلت أمي وتركت قصاصاتها بين يديّ لتذكرني بقول النبي صلى الله عليه وآله: إنّ لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا.
اضافةتعليق
التعليقات