كأن أول تساؤل يُمكن أن يَخطر في الذهن عند تلاوة هذه الآيات: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا(٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}(مريم: ٢٥).
هو لماذا كان النداء بالنهي عن أن تحزن السيدة مريم (عليها السلام) بنداء من خلال شيء مادي - اي وجود السَرِيا/جدول الماء وهز النخلة؟- وليس شيء آخر، فمثلا لمَ لمْ يكن النداء تطميني بقول لا بأمر أو بوعد إلهي لها بأن لن يتعرض لها أحد ولن تؤذى فيما بعد...؟
وهنا ما يمكن أن نفهمه من وحي هذه الآيات هو إن نداء التطمين لا يتناسب مع شأن السيدة كونها تعلم إنها من أهل الاصطفاء، وقد اختِيرتْ لهذه المهمة لعلو إيمانها ويقينها بمعية ومعونة الله تعالى لها لذا لم يأتِ النداء بهذه الصورة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى وكأن مجيء النداء بهذه الصورة فيه إشارة إن ما يلزمكِ- يا مريم- الآن هو أن تتغذي أنتِ ووليدكِ أما ما كان وما سيكون وسيجري فيما بعد فهو بيد الملك المدبر الخبير الذي تقبلك واصطفاك لهذا الأمر، والذي بيده تسيير كل الأمور.
-وبعبارة أخرى- الآن ما تحتاجينه من رعاية وعناية منه جل وعلا هي تلك السريا وها قد نبع الجدول تحتكِ؛ وتلك الشجرة وها هي بقربكِ لتنالي منها رطبًا جنيا؛ فالذي يرعاكِ في مأكلك ومشربك، ومن قبل في كل تفاصيل حياتكِ ومواقفكِ، هل سيترككِ لوحدكِ عندما تواجهين مجتمع كامل لأجله؟! حاشاه.. حاشاه..
بل أنتِ أولى بالتوكل - مع عِظم صعوبة التكليف- والسير باطمئنان لا الخوف، وعدم الحزن لأنكِ كنتِ مؤهلة لهذا الاصطفاء ولهذه المهمة الالهية العظيمة؛ فاكملي تكليفكِ، فلا يليق بمثلكِ الحزن أو الخوف أو التراجع.
وهذه رسالة لنا جميعًا، كلاً حسب دوره في هذه الحياة، فليستحضر هذا المعنى وليستشعر حالة الاطمئنان في كل حال هو فيه، طالما إنه يعمل بما عليه صدقًا وحقًا؛ فلن يتركه الله تعالى لنفسه ولا للآخرين ولا لصعوبات المسير، فلحظات الامتحان الإلهي هي الفيصل الحقيقي الكاشف عن درجة إيماننا، هل هي في أعلاها؛ فتكتب درجتنا في درجات المتوكلين أم لا؟
اضافةتعليق
التعليقات