لأول من ديسمبر، الساعة الثانية بعد منتصف الليل..
مضى أحد وعشرون يوما على سفر والدي، لبرهة إرتابني تعب غير متوقع وشوقٌ يغزو قلبي سريعاً، كان يمتد بين خلاياه ليعطي صوتاً صامتاً بعيد المدى يُشعرني بأمس الحاجة لعناق طويل.
أجل سأفعلها.. فور عودتهم سألمهم بعمق حتى يتلامس قلبي مع قلبهم. ولكن! عائلتنا لم تعتد على هذا!، لا أذكر يوما بأن أحد والدي عانقتي بعمق!، هل سيرفضون؟! آملُ أن لا يحدث ذلك، أشعر بحاجتهم.
هناك الكثير من المتاعب في هذا العالم، والتي يسقط القلم خجلا عندها (لبساطة حلولها) ينقصها روح شغوفة وعقول واعية تسعى للنهوض، وعند الحديث عنها تشعر وكأنك تحرق بيديك أعز شيء تمتلكة وكلما ازددتَ نظراً، تألمتَ أكثر.
نعاني من إستياءنا وابتعادنا عن المقربين لنا بحجة أنهم عديمي الأخلاق ولا يملكون ثقافة حب الآخرين، وبالمقابل لم نحاول بأن نفكر يوماً قد نكون السبب في سوء هذا الفرد (الذي خُلق لغاية سامية). قد تكون سبب سوء أخلاق الإنسان فقط لأنه لم يسمع كلمة تطيبْ مشاعرهُ، كلمة تقول له لا بأس نحن بجانبك ونحن معك.
نؤمن جميعا بأن الإنسان يجب أن يكون ممتلئا ثقة بالله ويشعر بوجوده وجواره في كل وقت وكل لحظة من لحظات حياته ولكن الإنسان بطبيعته عندما يقع في مأزق أو مشكلة فإن عقله يبقى متشبثا بما ينقصه لا بما يملكه.
فالجميع يرغب بتلقي كلمة جميلة وعناق طويل يسد ثغرات روحه التي تثقبت بمتاعب الدنيا (وإن استصغرها المقابل لأنه لم يعشها، كمن عاش ألما ما أو قام بتجربة أشعرتهُ بأنه ينقصه الكثير وأهمها العاطفة ممن حوله).
العاطفة أشبة بالغذاء لا تغذي الروح فحسب وإنما تغذي الجسد والعقل أيضا، الإتصال النظري للطفل يعزز حبه لوالديه والتواصل الجسدي "العناق" يعزز ذلك أيضا. التواصل الجسدي بين الأم والرضيع والذي يليه التواصل البصري يخلق حباً قابلا للتجدد بين الأم وطفلها وهذا يعزز تقربهُ منها واللجوء لها عند وقوعه في أي مأزق في المستقبل.
السنوات الثلاث أو الأربع الأولى هي الفترة التي يتكون فيها حوالي ثلثي حجم مخ الطفل وهو بأمس الحاجة حينها ليتزود بالحنان والعاطفة التي تقوي من أساسه الصلب.
فنحن (أطفالنا خصوصاً) نحتاج العناق كحاجتنا للغذاء، نحتاج كحد أقل جرعتين منه يوميا لنتزود بالطاقة المتجددة، فهو يغذي أرواحنا بالإضافة إلى أهميته والتي أُثبتت علمياً فعند العناق يطلق الدماغ هرمون الـ "الأوكسيتوسين"، الذي يلعب دورا مهما في تنظيم مزاج الإنسان (لذا يسمى أيضا بهرمون السعادة أو هورمون العناق). بالإضافة إلى الأهمية العلمية للعناق التي تعزز الجهاز المناعي للفرد، العناق يشعرك أكثر سعادة وأكثرا تفاؤلا وأكثر حبا للآخرين.
وكذلك له فوائد جَمّة لعلاج القلق ويعزز من إحترام الإنسان لذاته، تقول فيرجينيا ساتير، عالمة النفس الشهيرة: «نحن نحتاج يوميًا لأربعة أحضانٍ لنعيش، ولثمانية لنعالج أنفسنا، ولإثني عشر لننمو ونتطوّر».
العالم الخارجي جميل ومغري وعند خروج الطفل من أسرته وهو ضعيف القاعدة ولم يشاهد الجمال ذاته في أسرته سيشعره ذلك بالألم وهذا الألم قد يؤدي إلى ماهو مُحرم.
يكاد مجتمعنا يخلو من ثقافة العناق وبالأخص عناق الأبوين لأبنائهم وهذا يولد ثغرة كبيرة لا تندمل، فتؤدي بهذا الطفل لتسول الحنان ممن حوله ويلجأ إلى أي من يشعره بعاطفةِ ولو كانت كاذبة ليوقعه في نهاية المطاف بفخٍ عميق نحتاج لسنين كي نخرجهُ منه، ولهذا نرى الإنحراف والعلاقات المُحرمة بين شبابنا لأننا لم نزودهم لما هم بحاجته من الحب والعاطفة والعناق.
ثقافة العناق التي نفتقر لها ليست سوءا أخلاقيا وليست من الصفات المنبوذة التي يرفضها ديننا الإسلامي بالعكس تماما نرى في أحاديث أئمتنا وساداتنا الحث على العناق والحب والرحمة فهذا ليس غريبا عن دين وجد لمصلحة الفرد فنرى أن أدعيتنا وزياراتنا لا تخلو من الحث على العطف والرحمة والمغفرة، وكذلك ما تحملة آيات القرآن العظيم من رحمة ومغفرة بين سطورها.
ورد عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (من تمام التحية للمقيم المصافحة، وتمام التسليم على المسافر المعانقة). فهذا دليل على أن ديننا لا ينظر للعناق على أنه مفسدة، بل يعطي أهمية لتزويد المسافر الذي أبعد عن والديه وأقاربه أو زوجتهِ وأبناءه بأن نزوده بما فقده في فترة الفراق عنهم من عاطفة.
ويحق لنا أن نذكر عطف ورحمة الله علينا حين قال في كتابه: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، فرحمة وكرم كبير من الله عز وجل بأن يجيزنا بحسناتنا أضعافا ويعاقبنا بسيئاتنا ذاتها.
فحب الآخرين واحترامهم والحرص على أن يتزودوا بحناننا وعاطفتنا التي خُلقنا منها ليس بغريب عن ديننا، أزواجنا وزوجاتنا، اخواننا واخواتنا، أبنائنا وبناتنا وحتى أقربائنا وأصدقائنا لهم الحق علينا بأن نعطيهم عناق يشعرهم بالأمان.
قيل أن فلسفة الحياة تقضي بأن تبدأ حياتنا ببكائنا وتنتهي بالبكاء علينا، لأن الإنسان خلق من عواطف وهذه العوطف هي التي تقوده لمعاملة الناس بمشاعره فنراه يبكي أحيانا ويضحك في أخرى فلا بد من أن ننظر لهذه المشاعر والعواطف بعين الإعتبار، ولو شغل الأم والأب هذه الثغرات في نفوس أطفالهم لن يكونوا بحاجة لأن يبحثوا فيما بعد لمن يمدهم بالعاطفة والحنان لأنهم سيجدوا دوما بأن والديهم قاموا بالفعل بذلك مسبقا وعلى طيلة فترات تربيتهم.
بإمكاننا أن نختَلق العديد من العلاجات التي بدورها تمد يد العون لمن حولنا وتعزز من حبهم لأنفسهم ليسعوا بالاندماج والإنتاج. والسؤال الجميل؛ لماذا لا يكتب الأطباء في وصفات الدواء "يحتاج المريض إلى عناق"؟!
عدم الإهتمام بك من قبل من كنتَ تهواهم في طفولتك ليست نهاية العالم، أنت تستطيع أن تخلق الجمال لمن حولك وتزوده لأبنائك، لا تخلق منهم أُناساً يتسولون الحب من هنا وهناك، فقد قيل (إن من يظل أسير الماضي لن يوقف الزمن ولكن سيوقف نفسه).
ويقول أحد الكتاب ما يشفي الغليل: (العناق ليس ترفاً وإنما ضرورة. نحتاج إليه لنعيش ونبقى على قيد الحياة ونثمر، إنه يروينا كما يفعل الماء مع الشجر لو انقطع مات).
اضافةتعليق
التعليقات