من المعروف أن المشروع الإنساني بأسره يستند إلى اللغة كوسيلة للتواصل بين البشر وللاحتفاظ بثمرة تفاعلهم مع الطبيعة حتى لا تبدأ كل تجربة مع الطبيعة وعالم الأشياء من نقطة الصفر وهذا هو التاريخ والوعي التاريخي والتواصل اللغوي يعني أن ثمة إنسانية مشتركة، وأن ثمة ثقة في أنه يمكن توصيل المعنى، وأن ثمة علاقة بين الذات والموضوع والفكر والواقع والدال والمدلول.
وقد ظهر الاهتمام بفلسفة اللغة في الحضارة الغربية باعتبارها واحدة من أهم المباحث الفلسفية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وهذا يرجع إلى اهتزاز فكرة الكليات، فالتواصل بين البشر يفترض وجود مثل هذه الكليات وبغيابها تنشأ مشكلة علاقة اللغة بالواقع، والذات المدركة بالموضوع المدرك. وكما قال فوكو: "إن مشكلة اللغة تحاصر الإنسان في عالم الصيرورة الكاملة". وقد صرح بول دي مان الناقد التفكيكي: بأن الفكر الغربي الحديث هو فكر لغوي أكثر من كونه فكراً أنطولوجياً أو تفسيرياً. وقبلهما تنبأ إرنست كاسيرر بأن اللغة ستصبح سلاح الشك العدمي وسلاح العداء للفلسفة، بعد أن كانت سلاح الفلسفة. وبالفعل، أصبحت اللغة هي هاجس الإنسان الغربي. وأصبح هدف كل العدميين، بعد أن اكتسبت اللغة هذه المركزية، إثبات إخفاقها، حتى تُصاب الإبستمولوجيا نفسها بالشلل.
فالهجوم على اللغة كأداة للتواصل بين البشر هو هجوم على المشروع الإنساني بأسره، وعلى مفهوم الإنسانية المشتركة، وعلى مقدرة الإنسان أن يراكم المعرفة وأن يتعامل مع الآخرين من خلال منظومات معرفية وأخلاقية مشتركة. أي إنه تعبير عن العدمية الفلسفية الناجمة عن تبني موقف لاعقلاني مادي سائل.
وقد تمت مناقشة الإشكاليات الفلسفية الكبرى من خلال مناقشة إشكالية قد تبدو وكأنها إشكالية لغوية محضة، وهي إشكالية علاقة الدال والمدلول و (الدال) هو الجانب المحسوس (بالإنجليزية: sensible) من الكلمة، فهو الصورة الصوتية أو مساويها المرئي.
أما (المدلول) فهو الجانب المفهوم من المعنى (بالإنجليزية: intelligible). وكان بوسعنا أن نقول ببساطة: إن الدال هو الاسم والمدلول هو المسمى، وإن الدال هو الكلمة التي تشير إلى شيء والمدلول هو الشيء الذي يشار إليه. ولكن حيث أن كلمة (دال) لا تشير إلى الكلمات وحسب، وإنما تشير إلى النظم الإشارية كلها علامات المرور - الرموز ... إلخ - فإننا نؤثر استخدامها لأنها أكثر شمولاً.
وقضية علاقة الدال بالمدلول هي في واقع الأمر قضية علاقة العقل بالواقع والإنسان بالطبيعة المادة، والذات بالموضوع، وفي نهاية الأمر، علاقة الخالق بالمخلوق. فالبعض يرى أنها علاقة قوية ومركبة. فعلى الرغم من أنه لا توجد علاقة تطابق بين الواحد والآخر، وعلى الرغم من أنه توجد مسافة تفصل بين الدال والمدلول أي أن اللغة ليست شفافة تماماً، فالدال جزء من النظام الإشاري اللاشخصي وله قواعده ومنطقه، أما المدلول فهو جزء من نظام المعنى، وتسري عليه قواعد مختلفة، ويختلط فيه المنطق باللامنطق. على الرغم من كل هذا إلا أنه توجد وسائل وآليات لتحسين الأداء اللغوي للوصول إلى ما نسميه (الحقيقة) أو على الأقل قدر كاف منها وإلى توصيله للآخرين. وهذا يعني أن العقل قادر على إدراك الواقع، وعلى تجريد المعرفة منه، وعلى توصيلها للآخرين.
وعلى العكس من كل هذا، يذهب بعض الماديين الآليين إلى أن حسب العلاقة بين الدال والمدلول بسيطة ومباشرة. فالدال -تصورهم - شفاف (يعكس) المدلول بشكل مباشر حتى نصل إلى اللغة الحرفية أو الحيادية، حيث يتوحد الدال بالمدلول. هذا يعني في واقع الأمر أن عقل الإنسان سلبي، يعكس الواقع بشكل مباشر دون تحوير أو تعديل أو إبداع.
وتشكل إشكالية علاقة الدال بالمدلول المدخل الحقيقي لدراسة فكر عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير (١٨٥٧- ۱۹۱۳م) واضع أساس علم اللغة البنيوي ورائد الثورة البنيوية الذي ذهب إلى أن علاقة الدال بالمدلول لا تستند إلى أية صفات موضوعية كامنة في الدال، ومن ثم فالعلاقة بينهما ليست ضرورية أو جوهرية أو ثابتة، فهي علاقة اعتباطية أو عشوائية. فلا يوجد أي سبب منطقي أو موضوعي لأن تكون كلمة (قطة) العربية، أو كلمة كات (cat) الإنجليزية، هي الإشارة الوحيدة الضرورية والمنطقية إلى هذا الحيوان الصغير الذي يشبه النمر ويسير على أربع ويغطي جسده نوع من الفراء.
ويرى دي سوسير أن النظام اللغوي هو نسق إشاري مبني على علاقة الاختلاف بين الثنائيات المتعارضة، فالاختلاف بين (قطة) و (بطة) ليس هو الاختلاف بين الحيوان الذي يحمل ذلك الاسم والطائر الذي يحمل ذلك الاسم، وإنما هو اختلاف بين الأصوات والإشارات الدالة بين القاف والباء تقابلها اختلافات بين الأفكار والأشياء المدلولات، دون أن تكون هناك علاقة ضرورية تستند إلى قانون (طبيعي) كامن في طبيعة الأشياء أنطولوجي أورباني بين الاختلافات القائمة بين الثنائيات في عالم الدوال من جهة، والاختلافات القائمة بين المدلولات من جهة أخرى.
فاللغة نظام من العلاقات والاختلافات الثنائية المتعارضة، ليست لأجزائها هوية أو جوهر أو حتى وجود خارجها.
إذن، توجد داخل شبكة الاختلافات اللامتناهية ومعنى الإشارة ينبع من اختلافها مع إشارة أخرى، والنظام اللغوي ككل يعمل من خلال سلسلة الاختلافات والثنائيات المتعارضة. فالمعنى ليس كامناً في الإشارة ذاتها، ولا حتى يضاف إليها، وإنما هو أمر وظيفي يحدد داخل شبكة العلاقات داخل النص نفسه. أي إن المعنى يولد من داخل اللغة نفسها وليس من الواقع.
ويمكن القول هنا بأن مقولة اللغة حلت محل مقولة المادة، فقد أصبحت المبدأ الواحد (قوة كامنة في الكون) (الطبيعة والإنسان دافعة له، تتخلل أثناءه، وتضبط وجوده وتوحده، قوة لا تتجزأ ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء. وقد تبدت مقولة المادة في مرحلة المادية القديمة الصلبة في مقولات مثل -علاقات الإنتاج أو الحتمية التاريخية أو المنفعة المادية أو إيروس أي الطاقة الجنسية - وهي مقولات مستقلة عن إرادة الإنسان دافعة له.
ولكن هذه كلها مقولات موضوعية، ومع تآكل الموضوع والذات وتصاعد معدلات النسبية والسيولة كان لابد من البحث عن مقولة تقع في النقطة التي تلتقي فيها الذات بالموضوع والثبات بالحركة والتجاوز بالكمون... إلخ).
وقد وجدت الفلسفة الغربية ضالتها في اللغة، فهي نظام مستقل له قواعده المستقلة عن الإرادة الإنسانية فهي موضوعية، ولكنها تحتاج إلى الإنسان كي تتحقق فهي ذاتية. ولكنها رغم هذا تدور في الإطار المادي، فاللغة تسبق الوعي الإنساني والإرادة الإنسانية. وكما يقول البنيويون: "نحن لا نتحدث اللغة، وإنما تتحدث اللغة من خلالنا".
ولكن رغم إرهاصات السيولة والنسبية الكاملة في فكر سوسير يظل هناك مركز، وتظل هناك علاقة بين الدال والمدلول (رغم اعتباطية العلاقة بينهما ورغم انفصالهما)، وتظل هناك إمكانية توليد المعنى، ومن ثم التواصل بين البشر. أي أن سوسير لم يسقط تماماً في العدمية الفلسفية الكامنة في رؤيته والبنيوية هي تطبيق لنموذج دي سوسير اللغوي على مجالات النشاط الإنساني المختلفة. ولذا نجد أنه ودعاة البنيوية يرون أن للعالم معنى، بل ومركزاً، تماماً مثلما قال دعاة المادية القديمة إنه يمكن توليد النظام من فوضى الطبيعة، والمعنى من عبثيتها، والأخلاق من حيادها وعدم اكتراثها!.
كل هذا يقف على طرف النقيض مما فعله العدميون من الماديين الجدد حينما قالوا: بانفصال الدال عن المدلول، وهي عبارة اصطلاحية تستخدم في علم اللغة أساساً، ولكنها أصبحت مقدمة فلسفية لكثير من النتائج التي يتأسس عليها النظام المعرفي ما بعد الحداثي بكل ما يضمر من عدمية فلسفية.
والعبارة تعني أن الأسماء لا علاقة لها بمسمياتها، وأن الإشارات ليس لها علاقة بما تشير إليه، وإن وجدت مثل هذه العلاقة فهي علاقة واهية خلافية. كل هذا يعني أن العقل ليست له علاقة كبيرة بالواقع وأنه غير قادر على الإحاطة به، كما يعني أن النسق اللغوي ذاته يسقط في قبضة الصيرورة والعدم، ويدخل الإنسان الغربي في مرحلة المادية السائلة.
اضافةتعليق
التعليقات