عندما صدح صوت الحق معلنًا براءته من اللات والعزة، ليستنهض الناس من الجهالة وحيرة الضلالة ويدعوهم لعبادة الواحد الأحد الذي بيده ملكوت كل شيء، ويحيي فيهم الضمائر التي غادرت أجسامهم، ويُعيد روح الإنسانية التي دسوها في التراب كما دسّوا بناتهم.
فقال: «أيها الناس إني رسول الله، ثلاثا فرمقه الناس بأبصارهم، ورماه أبو جهل قبحه الله بحجر فشج بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتى أتى الجبل فاستند إلى موضع يقال له: المتكأ وجاء المشركون في طلبه (١).
فلما تخلص منهم وآوى إلى جبلٍ يحميه؛ راح يتشحط بدمائه الطاهرة، ويتأسف على هذه الأمة؛ أمة الجاهلة الغارقة في ظلماتها، وراح يبث حزنه وآلامه وجراحاته إلى حبيبه الذي أقرب إليه من حبل الوريد ويتذوق حلاوة مناجاته ويغرق بلطف الرب ورحمته ووده.
"وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: ياعلي قد قتل محمد، فانطلق إلى منزل خديجة" (صلوات الله عليها) فكأنها كانت تعلم بما سيحدث له ومالذي سيفعلون به المشركين، فعندما أشخصت ببصرها إلى علي (عليه السلام) قالت: "يا علي ما فعل محمد"؟ (رضي الله عنها).
فدق الباب فقالت خديجة: من هذا؟ قال: أنا علي قالت: يا علي ما فعل محمد؟
قال : لا أدري إلا أن المشركين قد رموه بالحجارة، وما أدري أحي هو أم ميت، فأعطيني شيئا فيه ماء وخذي معك شيئا من هيس وانطلقي بنا نلتمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنا نجده جائعا عطشانا.
فمضى حتى جاز الجبل وخديجة معه فقال علي: ياخديجة: استبطني الوادي حتى أستظهره،
فجعل ينادي: "يا محمداه، يا رسول الله، نفسي لك الفداء في أي واد أنت ملقى؟
وجعلت خديجة تنادي:
من أحس لي النبي المصطفى؟
من أحس لي الربيع المرتضى؟
من أحس لي المطرود في الله؟
من أحس لي أبا القاسم؟" (٢)
ما أشبه الموقفين بين الجدة والحفيدة!
لكن الفرق بينهما أن الجدة بعد عناء طويل وبكاء مرير لقت حبيبها وزوجها النبي الأمي فضمدته وأطعمته وآوته بنفسها، وأما حفيدتها فلهفي عليها راحت تبحث عن أخيها وحبيبها وإمامها في الفلوات بين جثث القتلى ونادت بصوتٍ حزين يقرح القلوب .
«وقلب كئيب : وا محمداه ، صلى عليك مليك السماء ، هذا حسين بالعراء ، مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، وا ثكلاه ، وبناتك سبايا ، إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء.
وا محمداه ، وهذا حسين بالعراء ، تسفي عليه ريح الصباء ، قتيل أولاد البغايا» (٣)
فكانت السيدة خديجة الكبرى (صلوات الله عليها) خير ناصرة وداعمة ودرع حصين للنبوة، وصابرة ومحتسبة ذلك عند الله تعالى، "وقد شيد الله دينه بمال خديجة كما قال (ص): ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين: مال خديجة وسيف علي بن أبي طالب." (٤)
وها هي اليوم تقيه بنفسها وتصد عنه حجر المشركين ، "فلما جنَّ عليهم الليل انصرفت خديجة رضي الله عنها ورسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي عليه السلام ودخلت به منزلها، فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة، وأظلته بصخرة من فوق رأسه، وقامت في وجهه تستره ببردها، وأقبل المشركون يرمونه بالحجارة، فإذا جاءت من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة، وإذا رموه من تحته وقته الجدران الحيط، وإذا رمي من بين يديه وقته خديجة -رضي الله عنها- بنفسها، وجعلت تنادي:
"يا معشر قريش ترمى الحرة في منزلها"؟
فلما سمعوا ذلك انصرفوا عنه،» (٥)
ولذلك قال في حقها رسول الله (صلى الله عليه واله)
«أحبّبتُها مِن أعماقِ فُؤادي»
هذه السيدة الطاهرة الصديقة العفيفة خير مثال وأسوة للمرأة المسلمة في حسن التبعل
وللرجال والنساء لهم بها أسوة في الغيرة والدفاع عن الدين الحنيف ونصرته، كانت عارفة حق المعرفة بمقام النبوة، كان رسول الله كل شيء بالنسبة لها فتجرعت مرارة قريش وجفاء نسوتها لأجله والنظر لجمال محياه القدسي وتقول : "فلو أنني أمسيت في كل نعمة * ودامت لي الدنيا وملك الأكاسرة فما سويت عندي جناح بعوضة * إذا لم يكن عيني لعينك ناظرة " (٧)
فترك ألم رحيلها جرحًا عميقًا في قلب رسول الله ( صلى الله عليه واله) فكان يبكي بمرارة عندما تُذكر عنده
كما في رواية عن أم سلمة رضوان الله عليها
تقول: «لما ذكرنا خديجة بكىٰ رسول الله (صلىٰ الله عليه وآله) ثم قال :
خديجة وأين مثل خديجة،
صدقتني حين كذبني الناس
وآزرتني على دين الله
وأعانتني عليه بمالها..،» (٨)
وبدأت قَصة يتم بضعته الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها بعد فراق أمها الحانية وراحت "تلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وتدور حوله، وتقول: أبه أين أمي؟ قال:فنزل جبرئيل عليه السلام فقال له: ربك يأمرك أن تقرء فاطمة السلام وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران، فقالت فاطمة عليها السلام: إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام" (٩)
اضافةتعليق
التعليقات