تمتاز العلاقة بين القرآن الكريم والأئمة المعصومين بخصوصية متفردة من نوعها ففي الوقت الذي يُعَبِرُ عنهم بأنهم ترجمان له أي هم الآيات التكوينية وهو الآيات التدوينية التي أرسلها تعالى لخلقه، هو أيضاً ترجمان لهم بمعنى يُبين لنا مقام وصفات وعظمة هؤلاء الأئمة عند الله تعالى.
وهنا نحاول أن نبين وجه من أوجه المشترك الثاني الذي يُبينه لنا كتاب الله تعالى في حق الأئمة (عليهم السلام) بشكل عام والإمام علي (عليه السلام) بشكل خاص ومحل شاهدنا في صفحة من صفحات سورة النحل، قال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}(النحل:٢٧-٢٩)، وهو صفة العلم لصنف من الناس.
إيتاء العلم الإلهي من صفات الأمير عليه السلام
عند التأمل بمحتوى هذه الآيات والمورد الذي جاءت به، يتبين لنا إنها لا تتكلم عن صنف العوام بل عن أخصّ الخواص، وذلك من خلال الالتفات إلى مجموعة من الحقائق:
الحقيقة الأولى: صفة العلم، فهؤلاء علمهم ليس أي علم بل عبرت الآية إنه [مؤتى] ومن قبل الله تعالى، فأصحاب هذا العلم درجات كما قال تعالى :{…يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ…}(المجادلة:١١)، فهناك من يُؤتى [من العلم] كما في قوله تعالى: {يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}(مريم:٤٣)، وهناك من يُؤتى [كل العلم] فهذه درجة أكمل، والأئمة حازوا أعلى مراتب الإيتاء، فعن إمامنا السجاد (عليه السلام) إنه قال:" أَيُّهَا النَّاسُ، أُعْطِينَا سِتّاً وَ فُضِّلْنَا بِسَبْعٍ: أُعْطِينَا الْعِلْمَ..."(١)، وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في اختصاص الإمام علي (عليه السلام): "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب"(٢)، هذا وظاهر الآية يكشف عن ذلك أيضاً إذ إنهم عُرفوا به في يوم القيامة وليس في الدنيا فقط، وهذا يُشير إلى استحقاقهم لهذا الإيتاء بقاءً.
الحقيقة الثانية: من أوتوا العلم ورد ذكرهم كصنف من الناس في قبال صنف آخر هو الظالم لنفسه ممن كفر وأشرك بالله تعالى، فهذان الصنفان -كما أشرنا- ليسوا عوام الخلق بل الخواص وفي جنبتي الحق والباطل، وهذا يُعطينا فرصة لاستلهام مفاتيح نتعرف بها على هذا الصنف، ولنعرف نحن مع مَنْ؟
الأول: مفتاح استحقاق الإيتاء للعلم هو الإيمان لا الجحود
في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ}(العنكبوت:٤٩)، يَتَبين إن أهل العلم يقابلهم الظالمين، والحجود بآيات الله يقابله الإيمان فهم وقعوا في عدم التصديق بآيات الله تعالى، والجحود أيضاً هو الكفر وهو ما يحجب الإنسان عن أن يُرفَعَ مقامه عند الله تعالى فيكون مستحقاً للتعليم الالهي.
إذن المقدمة الأولى لنيلهم هذا الوصف هو الإيمان والخضوع لله تعالى كما في قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً }(الاسراء:١٠٧)، وفي شاهد آخر، قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّـهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الحج: ٥٤). إذن هم أوتوا العلم عن استحقاق لكمال إيمانهم. فعن رسول الله (صلى الله عليه واله) في حق الإمام علي(عليه السلام) قال: "برز الإيمان كله، إلى الشرك كله". (٣)
الثاني: مفتاح الاستحقاق للعلم هو التقوى
عندما نتأمل الآيات التالية من هذه السورة في نفس الصفحة نجدها تتحدث عن الصنف الذي يقابل الذين توفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فتصفهم بوصف جديد هو إنهم[المتقين] قال تعالى: {وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّـهُ الْمُتَّقِينَ}، (النحل:٣٠-٣١)، فجوابهم وردهم على ما قيل لهم لم يكن ردًا عاديًا بل رد بعلم.
فالحديث عن أوصاف الجنة التي هي استحقاق وعاقبة المتقين هي من العلوم الغيبية التي لا تُحصَل إلا بتعليم إلهي خاص، كما أن استخدام لفظة [ربكم] وليس[إلهكم] إشارة إلى هذا المعنى أيضاً أي معنى التربية والعناية والتعليم الإلهي لهم.
كما أن هناك آية تبين قاعدة ثابتة في أن التقوى مفتاح التعليم الإلهي، وذلك في قوله تعالى:{ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ ...}(البقرة:٢٨٢)، إذن من يؤتى العلم الإلهي كله هو ممن حقق أعلى مراتب التقوى، وهو بالتعبير القرآني يصبح [إمام للمتقين]، وقد جاء عن الرّسول (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: {رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّیَّاتِنا قُرَّةَ أَعْیُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِینَ إِماماً}، "قال رسول الله لجبرائيل …: {وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِینَ إِماماً} قال: علي ابن أبي طالب". (٤)
الثالث: وصف الملائكة لمن أوتوا العلم بالطيبين، قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ذواتهم طيبة وأعمالهم كذلك، فعن عمرو بن الحریث إنه قال سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله: ﴿كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا فِي السَّمَاء﴾، فقال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا أصلها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) فرعها،…"(٥).
بينما الصنف الآخر وصفتهم بالظالمين لأنفسهم، قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وفي قوله تعالى: {وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّـهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} فنفوسهم كانت ملوثة بالخبث، وبمرض الاستهزاء وأعمالهم عبارة عن سيئات، لهذا حتى أن من أوتو العلم عبروا بهذا التعبير في جزاء هذا الصنف في يوم القيامة: {قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ} فالجزاء كان من نسخ العمل.
بالنتيجة فإن ثمرة الطيب السلام وثمرة الخبث الاستسلام، فأهل العلم الذين سلموا بالدنيا لآيات ربهم استقبلوا بالسلام -أي الترحيب- بينما أهل الظلم الذين استكبروا بالدنيا عن آيات ربهم لم يكن أمامهم إلا الاستسلام لأليم العذاب المادي الذي هو بالدخول إلى جهنم بكل أبوابها، كما في قوله تعالى: {فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.
والملفت هنا إنهم مع كون الآية أفردت في مثوى هذا الصنف لكنها استخدمت الجمع في أمر الدخول لجهنم فهم لا يدخلون من باب واحد من أبواب جهنم الخاصة بالمتكبرين بل أمروا أن يدخلوا الأبواب، وهذا كاشف عن خطورة عملهم فأن تكبرهم لم يجعلهم يظلمون أنفسهم بأن يتخذوا غير الله تعالى إلها، بل أصبحوا أئمة للكفر -في قبال أئمة التقوى- فهم شركاء في جزاء كل من تبعهم وأتخذهم إمامًا.
بينما أهل العلم فالأمر أتى بالدخول للجنة، فالسلام والرضوان متحقق بكل الأحوال وما أمر الدخول للجنة إلا مظهر لرضوان الله تعالى، فالسلام والرضوان الإلهي الذي يعيشه أئمة المتقين في يوم القيامة هو النعيم الحقيقي وليس الجنان بما هي جنان.
الإذن الإلهي في يوم القيامة بالشفاعة والبيان منقبة من مناقب الإمام
وكما هو بَيّن أن أعلى مراتب الكرامة التي ينالها العبد هي تلك التي يبلغها يوم القيامة، والمقام الذي نالوه الذين أوتوا العلم هنا هو الإذن بالحديث لهم والذي وصف به أهل الشفاعة بل والرضا بما يقولون لأنهم لا ينطقون إلا بما يرضه جل وعلا، ولا يقولون إلا ما هو بالأصل ما علمهم إياه، فهو إذن لا يعطى لأحد كما في قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً، وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}(طه:١٠٩-١١٠).
ومن الجدير بالالتفات أن الآية التي أتت بعد آية الرضا بالقول - في هذا الشاهد القرآني من سورة طه - هي تكلمت عن العلم الإلهي، وكأن في ذلك إشارة إلى أن أهل العلم الإلهي مهما حصلوا من العلم يبقى علمهم غير كامل في قبال علم الله تعالى، كما وأنها أيضاً ذكرت صنف الظالم وكأنها تؤكد ما تذكره آيات سورة النحل في تصنيفها.
أما كيفية إظهار هذه الكرامة فهي في كون السؤال كان موجه لصنف الظالمين، إلا أن الأُذن بالرد عليه كان ليس لهم بل لأهل العلم "إذ كان فيه صورة من العذاب الروحي لهم" (٦)، والذي عبرت عنه الآية على لسان أهل العلم بـ[الخزي].
هذا ونختم بهذا الشاهد الروائي الذي ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) إنه قالَ:
}قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَ الْخِزْیَ الْیَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَی الْکافِرِینَ} قالَ: " {الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الأئمة يقولون لأعدائهم: أين شركائكم ومن أطعتموهم في الدنيا"(٧).
————
اضافةتعليق
التعليقات