ليس هناك أصعب من أن يتوجه الإنسان لبناء نفسه بالطرق السليمة، لكي يتعظ بأعباء الحياة فالعوائق كثيرة وكبيرة، وتحتاج إلى صراع قوي ضد رغبات النفس التي غالبا ما تميل إلى الجنوح خارج أطر العقل.
فالنفس البشرية ضعيفة وكل بند يحاول ضبط النفس، سترفضه وتحاول أن تتجاوزه إلى السهل الذي لا يثقل عليها. لذا نحتاج إلى مساندة لبناء الذات، وأفضل مساندة لبناء الذات، شهر رمضان الكريم، فهو مشروع إصلاحي للنفس. فَلَابُدّ من غربلة لروح الإنسان وفرصة للتفكر في الذات ومحاسبتها. وَلَابُدّ من نقضٍ بما علق بالإنسان من غبار الجهل واليأس والتخلف، والآخذ بشآبيب الأمل والتقدم للمضي في طريق راسخ نحو تجديد الحياة ليكون هذا التجديد هو السبيل لتقدم حياة الجماعة نحو الأمام لأن الفرد جزء لايتجزء من المجتمع يؤثر ويتأثر فيه.
ولا يتحقق هذا الشرط مجملاً إلا في شهر رمضان المبارك المخصص للعبادة والحضور الجبري للمؤمن لتلبية دعوة الرحمن في فريضة الصوم على مائدة التطهير. إذن هي سويعات تهذيب وتنقية للمؤمن إضافة لشرعية الصوم.
أما الثانية: هي شهر رمضان هو تدريب على الجوع والعطش ليتذكّر الإنسان المؤمن جوع وعطش الفقراء والمساكين ليواسيهم، من الأقرباء والجيران والمعارف، إن أجواء السلام والإيمان التي تسود العالم في هذا الشهر، وخاصة العالم الإسلامي، تجعل الإنسان لطيفا وحساسا، ومدافعا عن حقوق الآخرين، ولاسيما المحتاجين والفقراء لأنه يشعر بمعاناتهم، ويتمنى أن يكون عونا لهم، فتسمو روحه المهذبة، التي جمَّلتها الأجواء الرمضانية المتسامحة. وبهذا الفعل يسود التكافل الاجتماعي عن طريق مساعدة الغني للفقير والشعور بمُعاناته، ورسالة الإسلام هي التأكيد على هذين الأمرين الحيويين كما قال الله في كتابه الكريم: (يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم...) سورة الأنفال الآية ٢٤
فالبشر قد يتراجعون إلى الوراء وقد يقفون في مواقعهم دون حَرَاك. والاسلام أراد للمسلم التقدّم والسمو في كل أبعاد الحياة، ففي شهر رمضان تترجم الأفكار والأفعال وتتحول إلى وقائع والكلمة الطيبة إلى حياة فهو يعبد الله ما يعادل عبادة سنة. فشهر رمضان شهر البركة والحركة.
الثالث: العودة إلى كتاب الله، في شهر رمضان وهو ربيع القرآن الذي نزل على رسول الله كاملاً، والقرآن الحكيم كتاب الله ومصدر للنور، ودستور الإسلام فكم من مؤمن هجر القرآن بسبب مشاغله واتخذه مهجورا، يقول الله تعالى: (وَتبعوا النور الذي أُنزلَ مَعَهُ) سورة الأعراف آية ١٥٧. فعندما تستعد النفوس إلى تطبيقه والأخذ به كبرنامج للحياة الرغيدة يسعد الإنسان. فشهر رمضان هو مناسبة لخلق هذا الجوّ الإيماني الصادق والذي سيكون مقدمة لتطبيق القرآن. والاستفادة من الأجواء من المداومة على قراءة القرآن فهو كتاب حياة، ودستور يمنح الإنسانية مسارا أكيدا نحو الخير والنجاح الأبدي وفيه ليلة القدر التي هي أعظم الليالي ما إن أحياها مؤمن بنية خالصة إلى الله إلا ادخله سبحانه الجنة التي هي ابتغاء كل مسلم إذن لابد من استثمار هذا الموسم الروحي العظيم بأحسن وجه.
وكما نرى ثلاثون يوماً كافية لتدريب المسلم على التقيّد بالأحكام الشرعية إذا ما قرر الإنسان المسلم إصلاح نفسه ويجبرها على الالتزام بما يُملي عليه دينه فيعمل الواجبات وينبذ المحرمات.
الرابعة: إن المسلم يُلزم نفسه خلال شهر رمضان بالتقيّد بالأحكام الشرعية، والأخلاق الفاضلة، فهو فرصة للتدريب على الأخلاق الحميدة ونبذ الرذائل، والتذكر الدائم بنتائج الأخلاق الحميدة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يكون صاحب الأخلاق إنساناً محترماً ناجحاً في المجتمع، محبوباً لدى الناس ويكون مصيره في الجنة حيث الراحة الأبدية، أما صاحب الأخلاق السيئة فيكون على العكس ينفر منه الناس ويبتعدون عنه، وفي الآخرة يكون مصيره نار جهنم حيث العذاب الأبدي. وخلاصة القول إن العمل على تحسين الأخلاق هو نوع من الجهاد، قال رسول الله صلى عليه وآله لأصحابه عند عودتهم من سريّة: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس).
وهكذا يمكن للإنسان أن يفقد فرصة العودة للصواب إذا لم يحسن استغلال هذا الشهر المبارك، بما يكسب مغفرة الله ونجاحه في الحياة حينما يكسب بناء ذاته. فعملية البناء أصعب من عملية الهدم.
وشهر رمضان إذن؛ هي فرصة التركيز وبذل الجهد في بناء الذات. لذا على الجميع أن يعرفوا قيمة هذا الشهر المبارك واتخاذ هذا الشهر مناسبة جادة لتقويم النفس والتقرب إلى الله أكثر فأكثر، والامتناع عما يغضبه، ويرتفع بروحه وكيانه من موقع الانحطاط إلى موقع الطهارة والسمو فيما استغل الفرصة السانحة له متمثلاً بالعودة إلى واحة السلام والاطمئنان والرحمة الإلهية المباركة. فهو ليس عبادة شرعية فحسب بقدر ما هو فيه صلاح للمسلم المؤمن.
اضافةتعليق
التعليقات