العلاقات شبكة واسعة ولكل علاقة منها قواعد وأسس عرفية وأخلاقية وحتى دينية وغيرها، ومن أجمل العلاقات علاقة الأب وابنته، هذه العلاقة التي تعيش بين خطين خط لا يعرف من هذه العلاقة سوى الماديات وتنفيذ الأوامر بصورة رسمية، وخط قباله تكون الحدود شبه معدمة فترى الأب يفقد جزءاً من قيمته، فبين هذه وتلك علاقة الأب مميزة وتحتاج إلى معرفة، ومن (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) لابد من ملاحظة هذه العلاقة، فالرسول كان ينظر إلى ابنته بنظر الإكبار والإجلال وذلك لما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من المواهب والمزايا والفضائل، ولعله (صلى الله عليه وآله) كان مأموراً باحترامها وتجليلها فما كان يَدَعُ فرصة أو مناسبة تمرّ به إلاّ وينوّه بعظمة ابنته، ويشهد بمواهبها ومكانتها السامية عند الله تعالى وعند الرسول (صلى الله عليه وآله).
مع العلم أنه لم يُسمع من الرسول ذلك الثناء المتواصل الرفيع ولا معشاره في حق بقية بناته، ولم يكن ثناؤه عليها اندفاعاً للعاطفة والحب النفسي فقط، بل ما كان يسع له السكوت عن فضائل ابنته ودرجتها السامية عند الله تعالى. ولو لم يكن لها عند الله تعالى فضل عظيم لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعل معها ذلك إذ كانت ولده وقد أمر الله بتعظيم الولد للوالد، ولا يجوز أن يفعل معها ذلك، وهو بضدّ ما أمر به أمته عن الله تعالى، وكان ذلك كله لأسباب منها: كشفاً للحقيقة، وإظهاراً لمقام ابنته عند الله وعند الرسول، وكان الرسول يعلم ما سيجري على ابنته العزيزة من بعده من أنواع الظلم والاضطهاد والإيذاء وهتك الحرمة.
ولهذا أراد الرسول أن يتمّ الحجة على الناس، حتى لا يبقى لذي مقالٍ مقالُ أو عذر، وإلقاء الحجة على كل من لديه ابنة ومن الأحاديث على ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من المكانة في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله): فقد روى القاضي أبو محمد الكرخي في كتابه عن الإمام الصادق (عليه السلام) قالت فاطمة (عليها السلام): لما نزلت (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) هُبتُ رسول الله أن أقول له: يا أبة فكنت أقول: يا رسول الله. فأعرض عني مرة أو اثنتين أو ثلاثاً، ثم أقبل عليَّ فقال: يا فاطمة إنها لم تنزل فيكِ ولا في أهلكِ ولا في نسلكِ، أنت مني وأنا منك، إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبر، وقولي: يا أبة. فإنها أحيى للقلب وأرضى للرب.(1)
فهذه العلاقة القائمة على تكبيرها وتعظيمها على النقيض من الاستعارة منها ومنعها من ممارسة أبسط ما تحتاجه وفق الحدود الطبيعية، ولا شك أن حرمة الزهراء (صلوات الله عليها) ورفعتها إنما تعود لسمو شخصيتها وسمو مكانتها واخلاصها وعلو ايمانها وعبوديتها، ولا غرو فهي أم الأئمة وزوج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).
لكنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) أراد أن يفهم المسلمون حقيقة أخرى ويفصح عن رأي الاسلام بشأن أمر آخر فيخلق ثورة فكرية وثقافية في ذلك الوسط فيقول: البنت ليست كائنا يجب أن توأد، انظروا أني أقبّل يد ابنتي، واجلسها مكاني، وأكنّ لها عظيم احترامي وتقديري البنت إنسان كسائر الناس، نعمة من نعم الخالق، وموهبة إلهية.
وإنها كأخيها الرجل في سيرها نحو الكمال والقرب الإلهي، وهكذا أعاد رسول اللّه (ص) للمرأة شخصيتها التي تصدعت في ذلك الوسط المظلم، ولا زالت بعض تلك المفاهيم تسيطر على مجتمع اليوم، وبعضها الآخر كسرها بعنف لتصل إلى مرحلة التجاوز والتجاسر من البنت للأب، في باب فتحوه وأطلقوا عليه المزح، وهذا الباب أيضا تضاف له نكهة من الحب بحجة قوة العلاقة، وفي قبال ذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لشدة حبه لها كان يستأذن ويطرق الباب ولم يقع الإحترام نتيجة الحب فهذه المقاييس الجديدة التي أصبحتْ تلغي بعضا من قواعد الاحترام إما من البنت إلى الأب، أو بعض العوائل الذين قبلوا ذلك فجعلوها صغيرة، إن علاقة الأب بالبنت أو العكس من الضروري أن تكون منظمة وفق قواعد ثابتة، وأثبتها تلك التي وضعوها أهل البيت عليهم السلام كما في رسالة الحقوق وغيرها من الأحاديث التي تنظم وتشذب علاقات المجمع لتجعله متماسكا متزنا.
اضافةتعليق
التعليقات