يبدو أن الطقس الرمضاني العربي السنوي تحول بقدرة ممول، ومشاركة صناع، إلى موسم للدراما العربية، فلا نحصل على الدراما الجديدة إلا فيه، ولا نعثر على منعكساتنا وخيباتنا ونجاحاتنا إلا في هذا الموسم الذي تحول على صعيد الدراما إلى موسم جردة حساب درامية واجتماعية وإنسانية، فتتزاحم الرؤى والإنتاجات والإبداعات، ثم تحولت الدراما إلى مباريات في التحدي والتنازلات، والسقوف واختراقها أو البقاء تحتها، فتحول رمضان إلى شهر وموسم مزدحم، وتحول العام كله إلى مرحلة من الكمون المقيت، والتنظير، والإعلان عن مفاجآت، لكن هذه المفاجآت موجودة في صناديق لا تفتح إلا في رمضان، ليكون رمضان عيد الجائزة بحق، ليس للصائمين وحدهم، بل للمبدعين الذين صاموا العام كله، ليفطروا على مائدة الجائزة الموسمية!.
وعلينا أن نعترف، أنّه لم تعد المقالات الصحفية المدبجة تحت الطلب ومن صحفيين تحت الطلب، لمدح ذاك العمل الدرامي أو غيره في هذا المنبر أو ذاك، لم تعد بقادرة على إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه من هرق ماء وجه بعض تلك الأعمال أمام الجمهور، وما كان يمرّ من طلاسم نقدية على القراء عن هذه الأعمال في تلك المقالات، لم يعد يمرّ، فمتفرج اليوم قراره بيده، وعندما يُجمع الجمهور على هبوط وانحدار السوية الفنية والفكرية والأخلاقية لعمل ما، فلا يكلفه الأمر إلا كبسة زر ليغير القناة، وهكذا تصبح الكوميديا بقنواتنا في أزمة عندما يهجرها حتى جمهورها.
لقد بات في حكم العرف، الذي لا رجعة عنه، وفي شهر رمضان المبارك، أن تحتشد القنوات العربية، الأرضية منها والفضائية، بعشرات المسلسلات التلفزيونية، التي تحتل المشهد العام، وتسلب عقول المشاهدين القابعين أمام شاشاتها الصغيرة، الذين لا حول لهم سوى متابعة ما تقدمه القنوات بشغف وانفعال، علّهم يجدون ما يسرّهم وينفعهم، ويشبع حاجتهم للفرجة والترفيه، وذلك بالرغم من كثافة الأعمال الدرامية واختلاط وتنوع موضوعاتها، واختلاف مستوياتها الفنية، والتي لا تترك في معظمها أي أثر يذكر بعد الانتهاء من مشاهدتها.
لاشك أنّ صناعة الدراما في عالمنا العربي باتت تمتلك مقومات أساسية مهمة، من ناحية شركات الانتاج، كتاب، فنانون،.. وتقنيات حديثة تساعد على إنتاج مبهر للتوليفة الدرامية...! ولكن لا تزال المشكلة في كونها تخضع لسوق، يفرض معاييره، كل هذه الإمكانيات إنما توظف لتقديم دراما مسطحة، تزيد في تسخيف الحالة الفكرية التي تعيشها مجتمعاتنا، وكأن هذا ما ينقصنا!، ميزانيات ضخمة لمجرد التهريج، وميزانيات أضخم لدراما الأجزاء.. ولمسلسلات لا تقدم أي بعد فكري، ولا تخدم أي نبض اجتماعي، ومع ذلك تتلقفها الفضائيات لتملأ ساعات بثها.. ناشرة بلاهة متقنة.. ولكن يعتقد أصحابها أنهم أفذاذ بفضل الخلطات الدرامية المكثفة!.
المهم وبعد هذا الصيام الحراري والطويل، يفطر المشاهدون العرب ثم يتفرجون على المسلسلات المعروضة، أو بمعنى أدق يتفرجون وهم يفطرون فماذا يشاهدون؟!
مسلسلات درامية مفرغة من مضامين حقيقية.. أحداث مكرورة.. مختلقة لا قيمة لها سوى أنها مطلوبة في سوق فضائية تتبنى نوعية معينة من الدراما مفرغة من معناها الانساني العميق.. تصر تلك السوق على دراما تصيغ الوقائع على مزاجها بما يتلاءم والمنهجية التي اختارتها منذ زمن طويل.. ولم تتمكن أي محطات بديلة من اختراق هذا الاحتكار، لأنها هي الأخرى غرقت في مهام أخرى وربما اعتقدت أنها خارج المنافسة إلى أن جاء وقت اكتشفت كم كانت غارقة في اطمئنان مزيف..
ويمكن القول بأن المسلسلات الرمضانية التلفزيونية المعروضة حالياً على قنواتنا العربية المختلفة، تلعب دور المداهم والمستحوذ والمستفرد والآسر للمشاهد العربي خلال شهر رمضان، لكن المفارقة هو توزعه بين أجواء تعيد رتق جوانب مفقودة لديه في الإيمان والإحسان، والتفكير بوضع الآخر، الفقير والمحروم، ويستعيد بعض إنسانيته، وبين التنميط والتسليع والصراع على إرادة الوعي لديه، بوصفه أحد أفراد جمهور بدأ يغفل عن همومه وقضاياه، حيث تقدم له وجبات ثقافية خفيفة، ومقشرة من السياسة، بمعناها المدني، وبعيدة كل البعد عن حاجاته الأساسية وأولوياته، وتقذفه بعض فنون الصورة الدرامية نحو كل ما يبعث على الحزن والموت، وأخرى تحث على القتل والإرهاب وأخرى، تقف على النقيض تماماً، ويمكن وصفها بالفنون الملائكية، لأنها تحتوي من صفات الأنبياء أكثر مما تتضمنه من صفات البشر من عامة الناس.
لاشك أن ما تفعله الفضائيات العربية مدروس، فقد فهمت تركيبة المواطن العربي وأوجدت له دراما تلائمه وتجذبه لأنها تذكره بما يفتقده.. بحيث تصبح تلك المواد التلفزيونية المقدمة التي يتلقفها المشاهد بديلا عن الثقافة الحقيقية.. وربما تصبح حلماً أو بديلاً عن حياة واقعية لا يتمكن من أن يحياها.. فالفضائيات العربية تبدو وكأنها حزمة متكاملة.. تتقاسم الأدوار فيما بينها فإذا كانت الإخبارية منها تضخ مواد سياسية تتلائم ومصالح مموليها، فإن الفضائيات المنوعة هي الأخرى تتحصن ببرامج تحاول أن تجد امتداداً عربياً واسعاً لها.. وهي تروج عبر دراماها وبرامجها المنوعة لمختلف الموضوعات التي تهمها حتى أنها تتبنى نجوماً بذاتهم وتبدأ بالترويج لهم بحيث يصبحون جزءاً لا يتجزأ من المحطة يطلون علينا سواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا.. ولكن من أجل الترويج لرسائل بذاتها تخدم المحطة التي صنعتهم..
وتدعو هذه الظاهرة، التي تستحق الوقوف عليها، إلى القول، إن المسلسلات الرمضانية حوّلت المشاهد العربي إلى متفرّج جاهز بامتياز، بوصفه فرداً في مجتمع الاستهلاك، تحدده الصورة التلفزيونية، وكائناً تواصلياً، حيث التواصل يحدث من جهة واحدة، من المرسل إلى المرسل إليه، لاغية بذلك تبادل المواقع في عملية التواصل. ولا شيء في الوجود يمكن أن يدرك خارج رغبة الإنسان الدفينة في أن يكون أكثر من فرد معزول..
إنّ ما لا يتحقق عند المشاهد العربي في الواقع يعيشه في شكل أحلام واستيهامات، وصور دفينة قد لا يدرك وجودها بشكل واع، خصوصاً وأن أحلام السواد الأعظم من المشاهدين العرب معطلة، وآماله قليلة ومحدودة، ووقته رخيص جداً، ويعاني حالة من انسداد الأفق، تتخللها فراغات عاطفية ونفسية كبيرة، لذلك يحاول العثور في شخصيات المسلسلات الدرامية على صور تعويضية، وعلى ملجأ للنسيان في الأحداث والقصص الدرامية، ووسيلة للتعويض عن الفشل والهزائم والخيبات الفردية والجماعية، من خلال التماهي بالأبطال الوهميين، ذوي الطاقات غير المحدودة، وما عليه سوى ترقّب مصائرهم والعيش مع مسراتهم وأحزانهم ومغامراتهم، بل وتقليد سلوكهم وحركاتهم أحياناً.
وعند تناول الأعمال الدرامية الرمضانية التي تعرضها القنوات العربية، وفق المنظور الثقافي نجد أن السمة الغالبة لها هي التسطيح وتغييب العقل وانتفاء التفكير، إذ نادراً ما نعثر على مسلسل يحترم عقل المشاهد، ويقدم له عملاً فنياً مميزاً، ويمتلك موضوعاً ذي قيمة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، بل إن العديد من المسلسلات لا تحترم الثقافة والمثقفين، وتسخر أحياناً من صورة المثقف، وتهزأ من أدواره. وأسهمت مثل هذه الأعمال في نسج عقل يمكن تسميته بالعقل التلفزي، يتكون من خليط من العقول التي تفرض نفسها في الخطاب الشائع، بوصفه العقل الوحيد الموثوق، إذ يحتقر هذا العقل كل ما يمت بصلة بالفلسفة والأدب والشعر، أي كل شيء ليس له أو لا يحقق مردودية اقتصادية بمقتضى معيارية وأخلاقيات اقتصاد السوق.
ويطرح هذا العقل الأسئلة والاستفسارات ذاتها في مختلف المسلسلات الدرامية، حيث يتم تلفيق الأجوبة ذاتها، في إجماع مستغرب حول ''الأسئلة'' ذاتها و''الأجوبة'' ذاتها، إنه التواطؤ الذي يُحلّ الاستفسارات محل الأسئلة، ويميّع الأجوبة. وقد أصبحت الفضائيات، في أيامنا هذه، وسيلة الثقافة الأسرع نفاذاً إلى عقل المشاهد العام، بل تحوّلت إلى وسيلة التثقيف الوحيدة بالنسبة لملايين المشاهدين، والمقلق في الأمر هو أن ما تقدمه من ثقافة ضحلة وخالية من البعد المعرفي، تبعث على الكسل وتغييب الخيال، وتسبب الخمول العقلي، بخاصة وأنه يمكن للفضائيات أن تسهم في تقديم جانب مهم من الثقافة البصرية التي لا غنى عنها لدى الإنسان.
لكن في ظل غياب وسائل المنافسة والتعدد، التي توفر للمشاهد حرية الاختيار، وافتقاد القدرة على التمييز وفضاء التنوع والاختلاف، فإن الدراما التلفزيونية المقدمة في سوق القنوات العربية هي مادة سريعة الاستهلاك، وسريعة الهضم والذوبان، بحيث أن كل مادة تأتي أسوأ من سابقتها، وكأن المادة الدرامية تحوّلت إلى ثقب ماص للمضامين المعرفية والثقافية، يُذيب كل ما يأتيه في فوضى إنتاج يضيع فيها المعنى والمبنى. وصار المشهد التلفزيوني المعّد مسبقاً آلة تنسج عقل المشاهد وفق متطلبات أصحاب القنوات الفضائية والقائمين عليها، حيث تبرز الصورة التلفزية، التي تضع مختلف الحواس خلف العين، كي تحول التلفزيون إلى ما يشبه بوابة الجسد إلى الذات الآخر والعالم والأشياء، وذلك بعد أن أوجدت القنوات التلفزيونية لغة الصورة التلفزية كنظام يحمل خصوصيته الوسيطة المتناسبة مع مُثل وقيم أصحاب الشركات المنتجة والراعية للمسلسلات، وبما يخدم قضايا اقتصاد السوق ومصالح أقطابه الرئيسية.
فعقول المواطنين العرب وقيمهم، أصبح العبث بها مباحاً مباشرة على الهواء عبر ضخ كبير للماركات التجارية المختلفة والمتنوعة لأن حقوق العبث محفوظة، أما الإشهار والمستشهرون الذين حوّلوا شهرنا الكريم إلى مساحات بلا نهاية وبلا حدود للإعلانات بكل أشكالها وأهدافها
وسلعها وقيمها وتجاوزاتها في أحيان كثيرة.. فلا يجوز العبث بماركاتها التجارية، فحقوقها محفوظة. فقد أصبح الإعلان ركيزة تجارة الإعلام وجوهرها ودجاجتها التي تبيض ذهباً، واقتحمت بيوتنا شركات متنافسة تضع عيناً على استغلال المشاهد، وقلباً على جيب المعلن، ولا شيء آخر.
إنّ السواد الأعظم مما يعرض على المشاهد العربي ليس سوى زبد لا ينفع ولا يفيد إذ يحتوي على الكثير من الإسفاف والضعف وتفاهة الأفكار، وتكرارها، ناهيك عن ترويج العديد من المبادىء التي تتعارض مع قيم المجتمع وحرمة الشهر الفضيل. فما قدم وما عايناه وتتبعناه يوحي بأن لا تغيير حدث، حيث ظلت قنواتنا العربية في مجملها، على حالها تنتج وتقدم أعمالاً مستهلكة ومتجاوزة..
ما نتحدث عنه يصب في التساؤل ويتمحور حول شخصية الدراما العربية التي يفترض أن تكون، هل هي دراما المرآة التي تعكس الواقع بلا تدخل من المؤلف والمخرج أم هي دراما التنوير والتوعية التي تخاطب العقول وتحاول أن ترسم ملامح مختلفة للسلوك الاجتماعي الراقي والأخلاقي من باب دور الفنون في معالجة الأمراض وليس مجرد تشخيصها والتركيز على فضائحها كما جرى في كثير من الأعمال العربية وليس السورية فحسب؟.
البعض يقول إن المشكلة تتعلق باستقالة الدراما العربية من مهامها التنويرية واكتفائها بتقديم قصص بلا روابط منطقية ولا فوائد سلوكية أو فكرية. هل يمكن القول إن غياب القصة والعبرة من النص والمسلسل يمكن له أن يصنع عملاً درامياً يصب في النهاية ضمن الخانة التي من الضروري أن يصل إليها جميع الفنون وليس الدراما فحسب؟ تدهور الدراما العربية بشكل عام يطرح سؤالاً عن حال الفنون العربية التي يقول النقاد إنها سكنت فترة طويلة من الزمن ولم تستطع إحداث نقلات نوعية في الأفكار والأدوات لذلك نراها اليوم تراوح في مكانها بعدما استنفدت كامل رصيدها من النجاحات، وصار من الضروري أن تقدم شيئاً مختلفاً وجديداً؟.
اضافةتعليق
التعليقات