من النادر أن يتلقى الإنسان الموهوب أو التوّاق إلى النجاح في المُجتمعات ذات الوعي المُنخفض دعمًا أو تشجيعًا معنويًا من أفراد الأسرة والأقرباء، صحيحٌ أن المرء قد يكون محظوظًا في حالات استثنائية نادرة يولد فيها بين أفراد أسرة داعمة مُشجعة واعية بمكانة الموهبة وقيمتها العالية.
وقد يكون أكثر حظًا فيُصادف في بدايات شبابه شريك حياةٍ مُتفهم يؤمن بطموحاته ويثق بها ويُساندها، لكن الأكثرية من غير المحظوظين لا يحظى عالمهم الخاص بتلك المُعجزة، لذا يجدون أنفسهم مُضطرين لمواجهة أعباء السير في طريق النجاح بكل ما يكتنفه من مصاعب بمُفردهم، ومواجهة الحروب التي تشنُّها الأسرة والأقارب ضدهم مع إخفائها عن الغرباء خشية شماتة الأعداء أو الظهور بمظهر المهزومين الضعفاء.
ولنُدرة الدعم والتشجيع من الأسرة وشُركاء الحياة – في مجتمعاتنا بوجه خاص- يجعل منه أمرًا مُستحقًا لأقصى درجات الامتنان، مُستحقا للتعامل معه بتكريم وتقدير من نوع خاص لا يكتفي بوضعه على قدم المساواة مع السلوكيات “المؤذية” أو “غير المُبالية” التي تعامل بها آخرون مع الشخص ذاته، فليس من العدل مُكافأة من آذاك مثل من واساك، ومن بخل عليك مثل من أعطاك..
لذا ليس من السهل على الناجح الادّعاء بأن “هؤلاء” أو “أولئك” من أقاربه ومعارفه ساندوه ودعموه وشجعوه ووقفوا إلى صفه بينما الواقع وراء كواليس حياته يشهد بأنهم أهملوا واستهتروا وحاربوا وأحبطوا وعرقلوا وحشدوا طاقاتهم ليكونوا عقبة أخرى في طريق تقدمه، لا سيّما في بدايات إعلانه عن آماله وطموحاته..
وسواء كانت تلك التصرفات عن سوء نية مردّها إلى الغيرة والحسد والكراهية غير المُبررة؛ أو عن حُسن نية قائمة على الخوف على مُستقبله مما يعتبرونه مصيرًا مجهولاً، تبقى النتيجة التخريبية متماثلة على أرض الواقع، فالقتل عن طريق الخطأ والقتل عن طريق العمد يؤديان إلى إزهاق الروح وموت المخلوق في كلتا الحالتين بصرف النظر عن الأسباب والنوايا.
إن عملية تنمية الإبداع تبدأ مما قبل المدرسة، أي مرحلة ما قبل التمدرس في المنزل من خلال الرعاية الأولية للطفل تحت أنظار والديْه بإحاطته بمثيرات تعمل على تنمية إدراكه الحسّي والعقلي بتوظيف واستغلال ما بالبيئة المحيطة به طبيعيا واجتماعيا وما تزخر به من وسائل وإمكانات خام وغير خام، وبعض الألعاب الإدراكية، والتفاعل مع الآخرين.
الطفل في الأسرة يُــدرّبُ على تنظيم بعض الوظائف الحيوية في جوٍّ انفعالي حميمي فيه حبٌّ وتقبّلٌ ممّــا يزرع الثقة في نفسه ويدفعه أكثر إلى الاكتشاف وإشباع فضوله. إن الأسرة لها دورٌ كبيرٌ وفعّالٌ في تشكيل عادات ومهارات تدفع إلى التفتّح والانفتاح. لنربطْ هذا القول بواقع أطفالنا في أسرنا وفي مؤسساتنا التربوية والتكوينية عامة وليس المدرسة فحسب، إنه واقعٌ مــرٌّ. نريد من أبنائنا أن يكونوا موهوبين، متفوّقين، متحصّلين على أعلى الدرجات، لا شغفا بالعلم ولا حبّا في المعرفة ولكن من أجل التفاخر بهم أمام المعارف والجيران وزوّارنا، دون أن نساهم كأولياء في توفير الشروط المعنوية والمادية لهم لكي ينموا على الأقل نموا طبيعيا وعاديا.
أغلب الأسر لا تعرف عن كُنه الطفولة شيئا وتجهل مراحلها وخصائص هذه المرحلة عن تلك وحاجيات الطفل ونوعيتها في كل مرحلة، وتنتظر هذه الأكثرية بفارغ الصبر موعد تدريس طفلها حتى تتخلص من صخبه وحركاته التي لا تتوقّف، كي تتولاّه مؤسسة أخرى ليُحشر مع غيره في حجرة تضم ما بين الخمسين والأربعين طفلا.
قبل أن نشخّص معوّقات الإبداع لدى أطفالنا حريٌّ بنا أن نقف قليلا عند مفهوم الإبداع ودواعيه وشروطه.
يتسرّب الخطر الذي يلحق الأذى بالطفل ويسلب إرادته من خلال اعتبارهـ ملكية خاصةـ وتعويضا لمهانة لحقت بالأم خلال تنشئتها، أو في عدم التوفيق في زواجها. ففي مجتمعات القهر والتسلّط الذكوري، كما هو الحال في بلدنا يلحق بالمرأة النصيبُ الأوفر من القهر والاستلاب. واستلاب إرادة المرأة هو الذي يحرمها من اكتساب المعرفة وتطوير مواهبها، ممّا يمكّنها من التعامل بوعي وشعور بالمسؤولية الراقية في حياتها الخاصة والعامة، ومن يدّعي جهلا أو تجاهلا أن وظيفة المرأة تتلخّص في الإنجاب والتنشئة، هو مخطئٌ، ذلك أن تربية الأطفال تتطلب خبرة بالحياة ومعارف خاصة فيما يتعلق بنفسية الطفل وآلية عملها وتفاعلها مع المؤثرات، والكثير مــمّا يصدر عن الأم يترك آثارا حاسمة في نفسية رجل وامرأة المستقبل وذهنيته ومجمل سلوكه.
قد تفتح الأم وعْي الطفل على حقائق الحياة، وتؤسس لديه احتراما للذات وثقة بالنفس وقدرة ذاتية على ولوج دروب الحياة وتسامحا حيال الآخرين وتعاونا معهم ومشاركة وجدانية. وقد تغرس فيه انفعالية مشوّهة وأنا داخلية معطوبة عن حُسْن نية أحيانا، وتعصّبا وتزمّتا يغلقان مجال الحياة على رحابتها مع الغير ومع الحياة. الأم المُسْتلبة تعوّض استلابها بامتلاك الطفل وإغداق الحنان عليه أكثر مما هو ضروري، بحيث تعطل تدريبه على الاعتماد على الذات والتعلّم من خلال التجربة والصواب والخطأ، وحيث ينشأ الطفل في حضن أمٍّ مضطَـهَدة يصعب عليه أن يكون شخصية مستقلّة.
وقد يأتي القهر من الأبوين معا في عدة أشكال، منها:
ـ انعدام الاتصال: هناك أعدادٌ لا تُحصى من الآباء والأمهات يأنفون من الاتصال بأطفالهم، خاصة الآباء، قد يشكو الأطفال من أنهم لا يستطيعون التحدث إلى والديهم أو التقرّب منهم. ونؤكد بأن الكثير من الأطفال في منازلهم يكونون في أحاديث حميمية، وألعاب وتوافق وانسجام وتلقائية فيما بينهم أو مع الأم، بمجرّد دخول الأب يعمّ المنزل السكون والكل ينزوي. تتوقف الحركة والحياة.
ـ سوء استعمال كلمة ((لا)) الزجرية وكلمة ((نعم)) الدالة على التسامح المفرط. هناك آباء وأمهات شديدو التزمت، عظيمو الرغبة في فرْض سلطتهما على أطفالهما، متوهّمين أنهم إذا تنازلوا ولانوا سيعجزون مستقبلا عن فرْض السيطرة، كما أن التشدد والقسوة هما الوسيلتان الناجحتان لتكوين الأبناء الصالحين.
ـ الكثير من الآباء والأمهات لا يثقون في أطفالهم ولا يحترمونهم وأحيانا يعاملونهم كما لو أنهم غير عاديين، لا يراعون خصائص مراحل النمو وحاجات مراحل الطفولة، يتجاهلون فروق السن والفروق الفردية فيفرضون على الطفل حاجات ومطالب كما يرونها هم مثل الغذاء والنوم، وعادات النظافة والتحدث والاتصال بالغير، حتى ما يخصّ اختيار الأقران والأصدقاء.
ـ الابتعاد عن الأطفال: هناك عدد كبير من الآباء لا يعرفون أطفالهم حقّ المعرفة لسبب بسيط هو أنهم لا يقضون مع أطفالهم أوقاتا كافية. إن الأب الكثير المشاغل يحاول دائما أن يبعد أطفاله عن طريقه بحجة أنه مشغول، وأن وقته لا يتسع لأخذهم إلى نزهة، أو حتى الجلوس معهم ومحادثتهم وملاعبتهم، فما بالك بمساعدتهم على الدراسة والتعليم والتعلّم، وإن كثيرا من الآباء يرتكبون خطيئة فاحشة عندما يتزوجون أعمالهم ووظائفهم ويُؤْثرون بها على أطفالهم.
وحيث يتعود الفرد منذ الطفولة على تلقّي الأوامر والنواهي، وحيث يتلقّى المعارف عن طريق التلقين والحشو وحدهما، تتعطّل في نفسيته روح المبادرة والبحث والثقة بالذات، وتتعطل في ذهنيته مَلكةُ الإبداع.
هذه المَلَكَةُ وما يتفرّع عنها من خيال جامح وتطلُّعٍ للكشف وجسارة على ولوج المجهول والابتكار، يتمّ غرسها بدءا في المنزل ثم في مرحلة الطفولة المبكرة، وتتعهّدها وتنميها التربية العصرية في روضة الأطفال والمدرسة، وما يوفّره المجتمع من بعد من مجالات مختلفة تعمل على ازدهار الإبداع واحتضان المبدعين.
الإبداع يتعارض مع القيود ومع القهر. الإبداع عملية بناء، والقهر عملية هدْمٍ وإفْناء. القهر الأسري في مراحل الطفولة يترك شروخا في النفس لا تزول أبدا، وتبقى ظلالها القاتمة مؤثرة في حياة الفرد.
اضافةتعليق
التعليقات