ها هي المرة الاولى التي أدخلُ فيها المطار وحدي، أتخطى بوابة المغادرون أنا وحقيبتي واطيافهم والكثيرُ من الذكريات!
جلستُ في صالة الانتظار، أتعقبُ لوحات الإعلانات ووجهة الطائرات وتلك الوجوه الجالسة، كل وجه فيها يحملُ قصة قد تكون بعنوان او دون عنوان، وانا مازلتُ أتذمر بداخلي من سويعات الإنتظار هذه، فأحاول الإنشغال مع صوت كربلاء الذي يشبهها كثيراً وهو يحمل الطفُ بين أوتاره حين يقول: آنه إخت الگايل بهاي الرزيه!
الموته سهله والصعب زينب سبيه؟!
ياهي مثلي من الناس؟
قلب اخوها ابهالاحساس
حتى وابقطعة الراس
اخته عن باله متروح..
وأخيراً..
على ركاب الطائرة المتوجهة لدمشق على متن الخطوط... التوجه الى البوابة الرابعة!
يالله، قفزتُ من مكاني، حملتُ حقيبتي الصغيرة وتوجهتُ نحو البوابة وأنا أرمقُ مطار النجف بتلك النظرات!
صعدتُ، وحين صرتُ على مُدرج الطائرة توجهتُ صوب النجف: عليك مني السلام مولاي ياابا الحسن، ذاهبة أنا برائحتك اليها، أستودعك رحلتي بكل تفاصيلها الى المُلتقى والعودة برائحتها!
القيتُ السلام على المُضيفة، أومتَ برأسها مرحباً، ثم قالت: رقم معقدك العاشر..
لا بأس يعني البداية، جلستُ عند النافذة وانا أنتظر من ستُشاركني ساعات الطريق..
بالمقعد المُقابل جلست إمراة طاعنة بالسن، حفر الزمن على خديَّها كل تجاعيد سنينه وتجاربه، مُعصبة بتلك العصابة القريبة لقلبي، مع شامة خضراء تعلو جبينها، يالله كم أحبهم هؤلاء كبار السن والعقل!.
جلستَ وهي ترفض أن تتخلى عن كيسها الحامل لأغراضها البسيطة، نظرتُ اليها وكانت بيننا مسافة سنين، تبسمتُ بوجهها فردَّت إبتسامتي بنظرة ود..
الآن علينا قفل حزام الآمان، ولكن هي لم تفهم الأمر ولعلها لم تكترث حتى جاءها المُضيف، عليك وضع حزام الآمان واشار الى عباءتها، لم يكمل تأشيرته حتى تسارعت لتُعدَّل عباءتها وتُثبت وجودها على رأسها، مازال هو يقف ويؤشر على عباءتها حتى صرخت (لااا يمه الا عباتي أني رايحة لزينب شلون انزع عباتي!).
تسمرتَ نظراتي وتدفق الدم بأوردتي حتى أحسستُ بأنه كالبُركان: ولكن جدتي هو لا يُريد منك نزع عباءتكِ هو يريد منك أن تضعي هذا، حزام الامان!.
تفاجأت المرأة العجوز وقالت: اذن (إنت أربطيه إلي).
أستمحيكَ عذراً أنا سأفعل.. قُلتها له ثم قمتُ من مكاني وربطتُ لها الحزام وطبعتُ قُبلتي على جبينها وعُدتُ لمكاني..
بدأنا بالصعود، الصعود حتى تعانقنا والسماء وصرنا نسلكُ دروبها دون الأرض، كان الأرتقاء خفيفاً كـ خُفة تلك الغيمات التي أذهلتني كيف تسير هكذا بكل وداعة!.
مرتَ لحظات قليلة، مازلنا ضيوف السماء، وصلنا الشام !
لكن الحال كان مُختلفاً، لباسهم يختلف! وجوههم! نظراتهم! كل شيء يختلف! أين أنا ومن هؤلاء؟
الزينة كانت تُزين الطرقات، الشوارع والبيوت، على جانبَّي الطريق واعلى السطوح تقف تلك النسوة مع أطفالهن بثياب مُزركشة والوان جذابة، تلبس الحلي والأساور وتضعُ الزينة وكأنهم في عيد!
ما الذي يحصل وأين أنا؟ من هُمْ هؤلاء القوم؟
الحلوى تُوزع في كل مكان ولكن تفوحُ منها رائحة العفن ومع هذا يأكلونها؟!
مابكم؟ من أنتم؟
أخذتُ أسال من هم بجانبي لكن صدى الزغاريد واصوات الطرب تملأ الأرجاء فيضيع صوتي بينها..
وقفتُ أنتظر ماذا سيحصل؟ علاما هكذا حالهم؟
مابكم؟ أعندكم عيد؟ لماذا كل هذا الأحتفال والإبتهاج؟
مازلتُ في ذهول مما رأيت، حتى تعالى صوتُ من بين الاصوات المُهلهلة بالبُكاء والنحيب..
ويحكم يا أهل الشام؟ هل لديكم عيداً لم نعرفه؟
مازال يبكي ويسأل وبدأت الحياة تتجمد في اطرافي حتى جاءت تلك القافلة؟
صمتُ خيّم على تلك الوجوه الحاقدة ..
بلى كانت جِمال بلا وطاء، عرجاء، تسيرُ حاملة انوار مُبعثرة، مُحدبة، مُقيدة بعباءات مُمزقة، محروقة ومُتربة، يتقدمها قمرُ مُكور الأضلاع يتدفقُ الدم من رقبته ويديه وأقدامه من حقد الجامعة التي عانقت قدماه ويداه وهو يأنُ ويجود بنفسه: الشام آه الشام ليت أُمي لم تلدني!
مازالت أوردة عيني تتجمد كـ جليد يفتكُ بكل أخضر، تمتدُ نظراتي تصلُ الى أطرافها ثُم ترجع، تصل ثُم ترجع حتى أكلمتُ نظرتي، وصلتُ اليها!
يالله، يامُحمد إنها هي والله ..
بأبي الذي كان يخرجها في الظلام الدامس لزيارة قبر أُمها خشية من عيون الناس، والحسنان على يمينها ويسارها يطفأون السراج كي لا يُرى ظلها!
بأبي الذي كان يسيرُ خلفها ذلك القمر الكافل وهو يمسحُ بيديه الطُهر آثار أقدامها من التُراب!
بأبي الخدر الذي ما برح مصوناً مازال بالحُسين نبضاً حياً وعند الكافلُ عيناً تبصرها؟
السياط آه السياط كيف تُصلي وترها على متون القداسة؟
كيف تتراشقها عيون الحقد بسهامها هكذا!
العطش، الجوع، العويل والبكاء، تلك الصغيرات وهي تلوذ بأطراف العباءة المحروقة، تلك الأقدام التي ما برح الحُسين يحملها بيديه كيف يغفو الشوك بينها؟ كيف!
ألك حاجة؟ السائل الذي ما برح واقفاً على بابهم يسألهم فيعطوه اليوم هو يسألهم أ لكم حاجة؟ فأنا ممن سمع حديث جدكم ورآه؟
بلى ياعم! أ عندك المال؟
بلى عندي، إدفعها وقُل لحامل تلك الرؤوس أن يُقدم الرأس بعيداً عن المحمل فقد خُزينا والله من كثرة النظر الينا؟! ياغيرة الله إثأري..
مالذي يجري هُنا؟
مازلتُ أُتابع بالنفس الأخير..
والرجل مازال يُنفذ ويقول قد فعلتُ أ لكم حاجة؟
قال له بلى، هل عندك ثوباً بالياً؟
ماحاجتكَ لثوب بالي؟
أضعه حول رقبتي لتحول بينها وبين تلك الجامعة اللعينة ..
مازال الرجلُ ينفذ، وأنا لاازال اشهد إنسلاخ روحي من جسدي موتاً أعيشه!
الى أين تسيرون؟ الى أين؟
إلى هُناك.. إلى حيثُ العجب كل العجب كيف أن السماء لم تُطبق على الارض؟
كيف أن الأرض لم تُخسف بهم؟
هناك الى الديوان!
ساكنة أظلة العرش، ستدخل الديوان بعباءة محترقة وأقدام مُقيدة، مع ما تبقى من الكفالة يعلو الرمح!
ديوان يكتظُ باليهود والمجوس، بالرومان والغارقين بالفسوق، وهُن من سدلت دونهنَّ حجاب النبوة والإمامة! هُن روح محمد وعزم علي ووقار فاطم!
وكأن مشهدها في الكوفة يحضرني وابن زياد يخاطبها:
كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيته؟
رأيتُها تقبض بيدها التي تشخبُ الدماء منها بكل ما بها من القوة على جانب عباءتها، رأيتها تستجمعُ قلب العباس فيها وهي تقول: ما رأيتُ الآ جميلاً.
ولئن جَرَّت علَيّ الدواهي مُخاطبتَك، إنّي لأستصغرُ قَدْرَك، وأستَعظمُ تَقريعك، وأستكبر توبيخك!
ولكن ..
كِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها.. فوالله لا تمحو ذكرنا، فوالله لا تمحو ذكرنا..
مازال صدى صوتها يهتفُ بقلبي، حتى أستيقظتُ على ذلك الصوت: أهلاً بكم في مدينة دمشق!
وأنا ودموعي نصرخ: لا أهلاً بها لااا اهلاً بها ..
اضافةتعليق
التعليقات