عندما نقرأ زيارة عاشوراء، ونحلّق بجناحي التولّي والتبرّي، مرورا بالتخلية ثم التحلية المتمثّلة باللعن على أعداء آل محمد من الأولين والآخرين، والسلام على سيد الشهداء وعلى الأرواح التي حلّت بفنائه المقدّس، لينتهي بنا المطاف بالدعاء الذي نذكره في حالة السجود - حيث يكون الداعي أقرب ما يكون إلى الله - نسأله أن يرزقنا قدم صدق ثابتة لا تزلّ مع الحسين عليه السلام وأصحابه السعداء .
وهنا يرد السؤال وبإلحاح: كيف نحظى بهذه القدم الثابتة، وما هي المؤهلات التي نحتاجها لنحقق الهدف؟
عندما نكمل عبارة الدعاء سيتجلّى السر أمامنا بوضوح " الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام" !!
هذا هو الثمن الذي علينا أن ندفعه لو أردنا الثبات في جبهة الحق؛ علينا أن نكون مستعدّين لبذل المهج؛ فالمواجهة بين الحق والباطل لم تنتهي باستشهاد الحسين عليه السلام، بل المعركة شرسة ومستمرة، وستبلغ ذروتها عند ظهور القائم من آل محمد؛ فنحن نحتاج لهذا الثبات إذا اخترنا ان نلتحق بمعسكره ونكون من جنده !!
عندما قرر الإمام الحسين عليه السلام الخروج من مكة والتوجّه إلى العراق قام في الناس خطيبا، وختم خطبته بقوله: " من كان باذلاً فِينَا مهجتَه، وموطِّناً على لِقاء الله نفسه، فلْيَرْحَل معنا، فإنِّي راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله " .
فالإمام عليه السلام حدد شرطين لمن يكون لائقا بالالتحاق بركبه، أن يكون مستعدا لبذل مهجته، وأن يوطّن نفسه على لقاء الله !!
هذه الدرجة الرفيعة من التضحية، والرغبة في الشهادة التي تمثل
ذروة العطاء الانساني هي اللازمة لمن أراد أن يلتحق بالركب الحسيني، ولكن كيف يمكن الحصول على هذا المستوى من الاستعداد النفسي للسير في طريق ذات الشوكة انتهاء ببذل المهج ؟!
لو أردنا الحصول على إجابة وافية علينا استقراء حياة أولئك الثلّة الذين استشهدوا بين يدي الإمام الحسين وحلّوا بفنائه، وبماذا كانوا يتميّزون !
لقد وصفهم أحد القوّاد في المعسكر الأموي- والفضل ما شهدت به الأعداء - بقوله: " إنما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوما مستميتين" .
إنهم فرسان مشهود لهم بالشجاعة، ولكن ليس هذا فحسب، فالمعسكر الأموي كان فيه رجال شجعان قد يُعدّ الواحد منهم بألف لكنهم كانوا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا قد استحوذ عليهم الشيطان، وسوّلت لهم أنفسهم الأمّارة بالسوء ارتكاب أفضع جريمة في تأريخ الإنسانية، ففجعوا قلب الدين بقتل سبط سيد المرسلين!
أصحاب الإمام الحسين إضافة إلى بطولاتهم الفذّة التي خلّدها التاريخ كانوا نخبة المجتمع الأسلامي في ذلك الوقت، كانوا يشكّلون طرازا خاصا من البشر، على درجة عالية من الوعي الرسالي العميق، قد وصلوا إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه إنسان في نموه الروحي وتكامله الإنساني .
كانوا يدركون بدون ذرة ريب أو شك مع مَن يقفون، وبأي جبهة يقاتلون، وفي سبيل مَن يستميتون .
كانوا يمتلكون البصيرة التي هي ثمرة المعرفة، المعرفة العقائدية الراسخة؛ بأنّ الحسين عليه السلام ليس شخصا عاديا يقاتلون إلى جانبه من أجل نوازع ذاتية، أو حميّات عشائرية، أو أطماع دنيوية، بل هو إمام زمانهم وحجة الله عليهم، وهو سبط الرسول وسيد شباب أهل الجنة، وخامس أصحاب الكساء الذين أمر الله بمودتهم !
هذه المعرفة كانت واضحة من اختيارهم الصحيح في وقت كان الخيار عسيرا، من خطاباتهم مع المعسكر المعادي، من حوارهم مع الإمام عليه السلام، ومن أراجيزهم عند القتال .
زهير بن القين وقف أمام القوم يعظهم لعلّهم يثوبون إلى رشدهم ومما قاله: " انّ الله ابتلانا وإيّاكم بذرية نبيّه محمد صلى الله عليه وآله؛ لينظر مانحن وانتم عاملون".
عابس بن شبيب الشاكري عندما أراد القتال توجه إلى الإمام الحسين قائلا: " يا أبا عبد الله أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليّ ولا أحب إلي منك، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشئ أعز علي من نفسي ودمي لفعلت، السلام عليك يا أبا عبد الله أشهد أني على هداك وهدى أبيك"
ثم شدّ على القوم برأس حاسر، وصدر عارٍ بعد أن ألقى مغفره ودرعه غير مكترث بضرب السيوف وطعن الرماح !
ذلك الفتى اليافع الذي دفعته أمه للقتال رغم أنها فُجعت توا بأبيه كان يردد :
أميري حسين ونعم الأمير
سرور فؤاد البشير النذير
فهو يدافع عن أميره وسبط نبيّه !.
وحتى أخوة الحسين وأهل بيته كانوا يقاتلون من منطلق ديني عقائدي وليس من منطلق عشائري !
العباس عليه السلام كان يرتجز قائلا:
إني أحامي أبدا عن ديني
وعن إمام ثابت اليقين
فهو يحامي عن الدين الذي كان مجسّدا في ذلك الوقت بأخيه الحسين عليه السلام .
هذه المعرفة الولائية كان مزاجها مع تسنيم العشق الذي أخذ بمجامع قلوبهم، فأذهلهم عن كل شيء إلا جمال معشوقهم، لقد وردوا مَعينَه العذب فصدروا ريّانين ثلجي الفؤاد؛ لذا كانوا على استعداد تام لينسجوا من أرواحهم درعا تقيه من أذى الأعداء؛ ليذهب كل شي فداء ويبقى الحسين سالما؛ تمنوا القتل عشرات المرات على أن يتركوه وحيدا وينجوا بأنفسهم؛ فالموت بين يديه حياة، والحياة في غيابه تيه وضياع!
قالوا جميعا بصوت واحد: " والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قُتِلنا كنّا وَفَيْنا وقضينا ما علينا".
عندما نقرأ في الزيارة الجامعة الكبيرة مخاطبين المعصومين عليهم السلام: "بأَبي أَنتم وأمّي ونفسي وأَهلي ومالي"؛ وفي مورد آخر: "بأبي أنتم وأمي وأهلي ومالي وأسرتي" فنحن بهذه العبارات نستحضر قول الرسول صلى الله عليه وآله: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذريتي أحب إليه من ذريته" .
هذا ما نحتاج إليه لنحظى بقدم صدق ثابتة في كل مواجهة مع الباطل: معرفة عقائدية بالمعصومين، بحجيّتهم المفروضة على أعناقنا من الله، بدرجاتهم الرفيعة، ومقامهم الشامخ الذي لا
يسبقه سابق، ولا يلحقه لاحق، ويعجز عن إدراكه الطامعون، تعزّزها معرفة شاملة وتفصيليّة بسيرة حياتهم، وما خلّفوه لنا من تراث ديني وإنساني غني نبني من خلاله ذواتنا، ونشكّل كياننا بالصورة التي يرتضونها لنا .
كل ذلك مؤطّر بإطار المودة الخالصة، والحب النقي المتدفق، الذي يصل حد الوَلَه، حب لا يخدش نقاءه غرض دنيوي زائل، حب يجعلنا نقتّص آثارهم، ونوصل حياتنا الفانية بحياتهم الخالدة، وقضايانا المحدودة بقضيتهم الشاملة والممّتدة، حب يرّخص كل غالٍ ونفيس في قبال ذواتهم المقدسة، ويهوّن كل عسير في رحلة المسير اليهم .
حب يقهر الموت فلا يقف حائلا دون الأمنية الصادقة في الالتحاق بركبهم، فنجدد العهد لنصر قائمهم كل يوم: " اللهم إن حال بيني وبينه الموتُ الذي جعلته على عبادك حتما مقضيا، فأخرجني من قبري، مؤتزرا كفني، شاهرا سيفي، مجرّدا قناتي، ملبّيا دعوة الداعي، في الحاضر والبادي".
اضافةتعليق
التعليقات