إنصدمت وتألّمت لمّا شاهدت في إحدى صفحات مواقع التواصل الإجتماعي صورة لولد قد ضُرِب من جهة والديه ضرباً مبرحاً، وقد حدثت كدمات مهولة على جسمه الصغير..
حتى كاد لا يفراق صورته البريئة؛ الحزينة ذهني. تأمّلت لبرهة، من أين تأتي كلّ هذه القسوة؟! وكيف للأهل أن يقسوا بهذا الشكل على فلذة كبدهم؟! بل كيف طاوع قلبهم أن يضربوا طفلاً لا حول له ولا قوة..!
قال تعالى: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ“. 1
كم وكم من أهالي يَدَّعون أنّهم بقسوتهم يربّون أولادهم؛ غافلين أنّهم بضربهم يَدْعُونهم الى (الـلاتربية). فهل هنالك عملٌ يستحق ضرب هذا البرعم الصغير! الذي لا يكاد يفقه شيئاً بعد.
وماذا استفاد أهله من ضربه غير أنّهم ولّدوا لديه عقدة نفسية اتجاههم قد لا تفارقه مدى الحياة، بل وأوجدوا في قلبه الخوف من كلّ الناس. وكيف لهم أن يتوقعوا بأن يختلط في المجتمع بنجاح ويكون سليم الأفعال؟!.
إنّ بضربهم له قد أنبتوا بذرة العنف في روحه، ومع مرور الأيام ستكبر هذه النبتة وتقوى جذورها، فيصبح من الصعب جداً إقتلاعها، إذ سيقسوا هو أيضاً ويتعامل بهمجية على من هم حوله مثل ما قسوا عليه. هذا كلّه يرجع الى سبب واحد رئيسي وهو؛ مدى بُعد الأهل عن منهج أهل بيت النبوة (سلام الله عليهم).
عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله): “الولد سَيِّدُ سبع سنين، وعَبدُ سبع سنين، ووزير سبع سنين “. 2
وعنه (صلى الله عليه وآله): “من قَبَّل ولده كان له حسنة، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة.“. 3
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): “إنّ الله عزَّ وجلَّ ليرحم العبد لِشدَّة حُبِّه لولده“. 4
إنّ على الأهل أن يكونوا في غاية “العطف والحنان” على أبنائهم، وهذا لا يعني أن يفسدونهم بدلالهم الشّديد وأن يرخوا الحبل كثيراً..! ليخلقوا منهم ضعفاء شخصية لا يقدرون على مواجهة صراعات الحياة ومتاهاتها، فينهارون على أقلّ مشكلة تواجههم، وكذا الحال إذا تمرضوا فطريقة المبالغة التي تتبعها الأمهات عندما يصاب أطفالهنّ بالمرض تؤثر على نفسية الطفل في الكبر.. يخلق منه طفلاً مكتئباً كثير الشكوى سريع الإنفعال.
بل أن يرخو الحبل تارةً ويشدّوه تارةً أخرى، لكن أن يشدّوه لا بمعنى أن يضربوهم! وأن يُحطِّموا شخصيّاتهم..! بل يجب مراعاة الأسلوب التربوي من قبل الوالدين، والإتفاق على منهج واحد من أجل أنْ يتعرّف الطفل على الصواب والخطأ في سلوكه. وقد أكدّت الروايات على الاعتدال في التعامل مع الطفل فلا إفراط ولا تفريط.
كيف نعاقب إن استلزم الأمر؟
العقوبة العاطفية خيرٌ من العقوبة البدنية كما أجاب الإمام الكاظم (عليه السلام) حينما سُئِل عن كيفية التعامل مع الطفل فقال: “لا تضربه واهجره... ولا تطل“. 5
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): "كُلُّ مولودٍ يُولد على الفِطرة حتى يكونَ أبواهُ هُما اللذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانه". 6
فالتربية التي تعمل على تغيير إيمان وعقيدة الطفل، كيف لا تعمل على تغيير سلوكه الأخلاقي في الدائرة الإجتماعية؟؟. وهذا الأمر جعل مسألة التربية الصالحة، من أهم حقوق الطفل على الوالدين، ففي الحديث النبوي الشريف: “حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه“. 7
فأهل البيت النبوة (سلام الله عليهم) قد حدّدوا لنا منهجاً وطريقاً نسلكه، وهم لنا أسوة في معاملتهم مع أبنائهم.
من هي التي كانت تُلقّب “بالحانية”؟
إنَّ المرأة الحانية هي التي ترأف بزوجها وأولادها، والغالب إستعمال “الحانية” في الأطفال الصّغار.
وهو لقب مبارك من ألقاب الشّمس السّاطعة فاطمة (سلام الله عليها)، ذكره في بحار الأنوار.
إنّ مولاتنا فاطمة كانت في قمة “الحنان والعطف“ على زوجها وأبنائها حتى أنَّها لُقِّبَت بهذا اللَّقب، لأنّها ضربت الرقم القياسي في الحنان والعطف عليهم.
أمّا عطفها ورأفتها بزوجها العظيم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو ما يعجز اللسان والقلم عن شرحه، وهو ما يحتاج إلى خصيصة مستقلة بذاتها ومقدمة خاصة بها.
ومن حنوّها على ريحانتيها (الحسن والحسين) عليهما السلام، ما ظهر منها حتى في أيّامها الأخيرة إذ هي تمشي نحو الماء متكئة على الحائط من شدة الضعف لتغسل أطفالها بنفسها وثيابهم آخر غسلة وهي ترتعش من شدة الألم..
وكذلك ظهر عطفها جلياً بأولادها ساعة تكفينها، لمّا رموا بأنفسهم على بدن أمّهم الشريف يبكون بكاءً شديدا، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): “إنّي أُشهِدُ الله أنَّها قَد حَنَّت وَأنَّت وَمَدَّت يَدَيها وَضَمَّتهُما إلى صَدرِها مَليَّاً“. 9
وحتى بعد رحيلها (صلوات الله عليها) كانت تنظر الى أطفالها بعين العطف والحنان.
قالوا أنه في ليلة دفنها وبعد أن واراها أمير المؤمنين (عليه السلام) غفت عيناه عند قبرها، بينما هو كذلك وإذ بالزهراء (عليها السلام) تترائى له وتقول: “أبا الحسن عجّل بالرّجوع إلى الدّار”، فسألها: لماذا؟ نفسي لا تطاوعني أن أفارق قبركِ يابنت رسول الله، قالت (عليها السلام): “أبا الحسن إنّ إبنتي زينب انتبهت مرعوبة، نظرت إلى حجرتي فلم تجدني، وهي الآن تنادي: أماه فاطمة أين أنتِ؟؟“. فعاد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الدار مسرعاً، أخذ إبنته زينب (عليها السلام) وضمّها الى حجره، يطيب قلبها ويمسح دموعها.
ومن حنوها على “شيعتها”: حينما أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يزوّجها بأمير المؤمنين علي(عليه السلام) أرادت شفاعة أمّة أبيها صَداقاً لها ولم ترضى بصداق آخر.
فجاء جبرئيل بورقة مكتوب فيها: “جَعَلتُ أُمَّةَ مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله) صَداقاً لِفَاطِمة (عليها السلام)“.
فتقول (عليها السلام): “إذا كان يوم القيامةِ آخُذُ هذا الكاغَذَ وأقول: “إلهي هذهِ قُبالةُ شَفاعةِ أُمَّةِ مُحمَّد (صلى الله عليه وآله)”. 10
نعم.. هذه المواقف قطرة من بحر مواقفها..
إنّها الحانية.. إنّها “فاطمة”!
اضافةتعليق
التعليقات