منذ فجر النبوّات والصراع قائم بين الحق والباطل، ولعلّ أشرس مواجهة تعرضّت لها جبهة الحق كانت من نصيب الدين الخاتِم، حتى قال النبي (صلّى الله عليه وآله): "ما أُوذيَ نبي مثل ما أوذيت" !.
وقد تصدّى الأمويون للدعوة الجديدة بشراسة منقطة النظير، وكان أبو سفيان يحمل راية الحرب ومن خلفه ولده معاوية في المعارك كلها التي خاضها المشركون ضد الدولة الإسلامية الفتيّة .
والتأريخ لا ينسى لهند بنت عتبة وحشيّتها عندما بقرت بطن الحمزة سيد الشهداء، واستخرجت كبده ولاكتها بين أسنانها حتى سُميّت بآكلة الأكباد، إلى أن دخلوا الإسلام مرغَمين وسيف الحق على أعناقهم وليحملوا وصمة "الطلقاء" إلى أبد الدهر !.
ورغم دخولهم -الظاهري- للإسلام إلا إن عداءهم ظلّ مستمرا لدين الله، والحسد والبغض يملأ قلوبهم للنبي وأهل بيته، و لم يتوقف مشروعهم الممنهج وكيدهم المتواصل لإطفاء نور الله!.
في كتاب أرسله أمير المؤمنين (عليه السلام) لمعاوية جاء فيه ما يوضح بقاؤهم على الكفر: "فلقد سلكتَ طرائق أبي سفيان أبيك، وعُتبة جدك وأمثالهما من أهلك ذوي الكفر والشقاق والأباطيل".
وينقل لنا التأريخ موقف أبي سفيان بعد استشهاد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، عندما علم بأمر السقيفة وكان حينها خارج المدينة، حيث أظهر رفضه لبيعة السقيفة، متظاهرا -كذبا ونفاقا- بالولاء والنصيحة لبني هاشم وللإمام علي (عليه السلام) باعتباره الخليفة الشرعي، في وقت كان الإمام يمرّ بأصعب ظرف، وأقسى محنة منشغلا عن المؤامرة التي تحاك ضدّه بتجهيزه للرسول (صلى الله عليه وآله)، مع انقلاب الأمة وخذلانها؛ حيث نادى أبو سفيان: "يا بني هاشم، يا بني عبد مناف أرضيتم أن يلي أبو فيصل، أما والله لو شئتم لأملأنّها عليهم خيلا ورجالا " !
فناداه أمير المؤمنين (عليه السلام): "ارجع يا أبا سفيان فوالله ما تريد الله بما تقول وما زلت تكيد الاسلام وأهله" .
لم تنطلي زوبعته الفارغة ومسرحيته الساذجة على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأفشل بذلك مخططه الرامي إلى ركوب موجة الأحداث، وإثارة الفتنة في محاولة
لاستغلال الموقف والخروج بنتائج تصبّ في صالح الجانب الأموي .
وعندما يئس أبو سفيان من جرّ الإمام علي (عليه السلام) إلى حرب أهلية، توجّه إلى الحزب الحاكم الذي استطاع أن يشتري سكوته بأن عهد بولاية الشام لأحد أبنائه؛ وبهذا الثمن الباهض هدأت سورة غضبه الكاذب، وانصرف قرير العين وهو يبدي شكره وثناءه لهذه الهبة العظيمة، ويدعو للواهبين !.
وبهذا صارت ولاية الشام في قبضة الأمويين، لا يُسئلون عن مواردها، ولا يصل إلى خزينة الدولة من خيراتها درهما، وأصبح أهلها أمويي الولاء والمذهب !.
واستمر المشروع الأموي ينمو ويتّسع برعاية الخليفتين إلى أن آل الأمر إلى الخليفة الثالث وهو أموي النسب؛ لتنفتح بذلك الأبواب على مصاريعها لأطماع الأمويين، وتتحول الأحلام الأموية إلى وقائع لدرجة يصرّح أبو سفيان بلا خوف أو حذر بمشروعه المستقبلي في الاستحواذ على الخلافة، وتحويلها إلى مُلك وراثي يتداوله الأمويون جيلا بعد جيل؛ ضاربا ثوابت الدين عرض الحائط، مستخفّا بمشاعر المسلمين، فقد دخل على الخليفة الثالث حين صارت الخلافة إليه فقال: "صارت إليك بعد تيم وعديّ فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أميّة فإنما هو المُلك ولا أدري ما جنة ولا نار".
كلام واضح وصريح في نكرانه للمعاد والنبوة، واعتقاده الجازم أن دين الله مُلْك يستحوذ عليه من كانت له الغلبة.
وفي مناسبة أخرى قال: "يا بني أمية! تلقّفوها تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة".
وتحققت أحلام أبي سفيان، حين تحوّلت خلافة رسول الله إلى ملك عضوض قائم على التعسف وظلم الرعية، يتداوله صبيان بني أمية، بعد أن استحوذ معاوية على الخلافة، وسمّى نفسه أمير المؤمنين، وأمر بقتل من لا يشهد له بإمرة المؤمنين !.
وبالرغم من جلوسه على منبر الخلافة باعتباره خليفه لرسول الله إلا إنه لم يستطع أن يخفي حقده وحسده للنبي الذي يذكر اسمه في الأذان خمس مرات يوميا، فقد نصحه "المغيرة بن شعبة" -وهو من خلّص أصحابه- بالإحسان إلى بني هاشم فكان ردّه الصادم: ".... وإن ابن أبي كبشة - يقصد بذلك النبي- ليُصاحُ به كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله! فأي عمل لي يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك! لا والله إلا دفنا دفنا" .
ولم يقصّر معاوية في جهوده لدفن ذكر النبي (صلى الله عليه وآله)، وإعلاء ذكر الأمويين ولو بوضع الأحاديث الكاذبة، وتزييف الحقائق، ولم يهلك إلا بعد أن استخلف ابنه يزيد الفاسق الفاجر، وأخذ له البيعة رغم إرادة الأمة، لأنه لا يرى في المسلمين من هو أليق بالخلافة منه؛ فقد خطب في المدينة يوما فذكر يزيد فمدحه، وقال: "من أحق منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟! "
وفي عهد يزيد المتهتّك الفاسق وصل الإنحراف إلى أعلى مستوياته، انحراف يهدد أركان الدين بالانهيار، وشريعة سيد المرسلين بالتحريف والتشويه؛ وكما عبّر الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله: "إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الاسلام السلام إذ قد بُليَت الأمة براعٍ مثل يزيد" .
نعم الإسلام في خطر، ولا بد من نهضة بمستوى هذا الخطر، نهضة ملحميّة تقف بوجه المشروع الأموي، نهضة لا يقوم بها إلا رعاة الدين، والمستخلَفين من الله للحفاظ عليه، الذين يضحّون في سبيله بدمائهم الزكية، ومهجهم المقدّسة .
وفعلا قام الإمام الحسين (عليه السلام) والصفوة من أهله بنهضته الخالدة بالرغم من قلّة العدد وخذلان الناصر .
ولكن ماذا بعد التضحية والشهادة، ومن سيواصل مسيرة الجهاد، وهل أبقت كربلاء من الهاشميين من يحمل الراية؟
لقد استمرت مسيرة الجهاد بالإمام السجاد (عليه السلام)، ولكن المسؤولية الكبرى في هذه المرحلة الحرجة كانت من نصيب عقائل الرسالة وفي مقدمتهنّ السيدة زينب (عليها السلام) التي صارت وجها لوجه مع التحدّي الأكبر؛ فالذين سعوا لإطفاء نور الله بقتل سبط النبي، سيواصلون سعيهم في تشويه ثورته، وتعطيل تأثيرها في الضمائر، فأول اجراء اتخذه يزيد لعنه الله هو محاولته البائسة للتنصّل من جريمة قتل الحسين (عليه السلام)، وإلقاء المسؤولية على عبيد الله بن زياد وغيره، ولكن بماذا يبرر سوقه لبنات رسول الله سبايا للمثول بين يديه؟!
ثم حاول إظهار ثورة الحسين بإنها خروج ضد الشرعية لدوافع ذاتية، ومصالح شخصية، فالحسين خرج على خليفة زمانه، وشقّ عصا المسلمين طمعا بالملك؛ لذا فهو يستحق القتل، بعد أن روّج الأمويون الأحاديث الكاذبة التي تبرر لهم قتل كل من يثور ضد حكمهم الجائر ومنها هذا الحديث: "سيكون هناك هنّات وهنّات، -أي شرور وفساد- فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائنا من كان "!.
في هذا الظرف العصيب تجلّت عظمة زينب، وفرادة زينب، وقدرتها على كشف الحقائق، ودحض أباطيل الأمويين، وإفشال مشروعهم، فقد رُبّيت في أحضان المعصومين، وتمّ اعدادها لمثل هذا اليوم .
وقفت زينب بوجه خصمها اللدود وفي بلاط حكمه، وقوف الندّ للند، غير منكسرة ولا ذليلة .
أنّبته أمام حاشيته على جرائمه أعنف تأنيب، مع احتقارها له واستصغارها لشأنه، وأعلنت للمخدوعين من الأمة، وللتأريخ، بأنها ليست من سبايا الروم أو الترك، بل هي ابنة الرسالة، وإن أخاها ليس خارجيا بل هو سبط النبي (صلى الله عليه وآله) وقد ضحّى بنفسه وأهل بيته لانقاذ دين جده ومضى شهيدا.
ذكّرت يزيد بآبائه الطلقاء، وعدائهم وحقدهم على الدين وأهله، وتحدّته بأن سعيه لن يفلح في محو ذكر آبائها، وإماتة وحيهم، وإطفاء نورهم، لأن نورهم نور الله الذي لايُطفأ بأفواه الحاقدين، ومجدهم مرتبط بالسماء، وذكرهم مقرون بذكر الله، وإن من ينصره الله فلا غالب له !.
اضافةتعليق
التعليقات